انبثقت فكرة الانتساب والتعليم عن بعد من مفهوم علمي وتنموي يؤمن بأهمية انتشار التعليم لكل شرائح المجتمع، لتمكينهم من تحصيل شهادات علمية موثقة، رغم ظروفهم المختلفة التي حالت أو تحول دون استكمال تعليمهم بالانتظام في صفوف الدراسة.

وقد وُضعت لذلك معايير وأُسس ميسرة ومرنة، تكفل تيسير التحاق كل من يرغب في استكمال تعليمه بالقاطرة التعليمية، دون حصر ذلك في سن معينة أو مستوى معين من التميز العلمي لقبوله، وذلك سعيا إلى نشر التعليم وتمكين الأفراد منه، بهدف الارتقاء بالمجتمعات وتمكين أفرادها من سبل العيش في الحياة بتأهيلهم، سواء للانخراط في العمل لتحمل مسؤوليات أنفسهم وأسرهم وأوطانهم، أو حتى للارتقاء بفكرهم ومعلوماتهم حتى يستطيعوا التعامل مع متغيرات المجتمع المتجددة، ومع أفراد أسرهم التي ينتمون إليها، فيكونون قادة متمكنين أو أعضاء فاعلين ومؤثرين في مجتمعهم الذي يحتويهم.

وانطلاقا من هذا المفهوم، توجهت وزارة التعليم نحو تطبيق نظام الدراسة بالانتساب بداية -منذ عقود- ثم التعليم عن بعد، فالتعليم الموازي، وقد أنفقت الوزارة في سبيل تحقيق ذلك التوجه كثيرا من الأموال التي يصعب حصرها، ووضعت كثيرا من السياسات والإجراءات، لاحتواء تلك الفئات من المجتمع، والتي تبحث عن هذا النوع من التعليم لمناسبته ظروفهم المختلفة التي أعاقت إمكان استكمالهم تعليمهم بالانتظام العادي، وذلك مقابل مبالغ تعدّ رمزية مقارنة بحجم الفائدة المرجوة والمردود المستهدف.

ومما لا يخفى علينا، أن الوزارة اتجهت نحو إغلاق كل برامج الانتساب في جامعات المملكة منذ نحو 3 سنوات أو أكثر، كما أوقفت جميع برامج التعليم الموازي في جامعاتنا الحكومية التي تحوي برامج متنوعة توفر إمكان التعليم للطالب في تخصصات مرغوبة، وحالت نسبته الموزونة دون قبوله في الدراسة النظامية المجانية، وعليه تضاعف أعداد الطلاب غير المقبولين في الجامعات، والذين لا يملكون إمكان الالتحاق بالجامعات الخاصة، لارتفاع أسعارها في ظل تخلي الوزارة عن برنامج الابتعاث الداخلي، وعدم مناسبة ظروفهم للابتعاث الخارجي، مع ضعف برامج كليات المجتمع ومحدودية تخصصاتها.

ولعله من المهم توضيح أسباب إغلاق الوزارة برامج الانتساب والتعليم الموازي، للوقوف على مدى إدراك الوزارة أهمية تلك البرامج، وما الهدف الذي وضعت من أجله؟، علاوة على مدى مسؤولية الوزارة عن تلك المخرجات من أبنائنا وبناتنا الطالبات، إذ وجدت الوزارة -كما يتضح وتمت معايشته- أن مخرجات تلك البرامج ضعيفة في مستواها العلمي وفي إمكاناتها المعرفية من التخصصات التي درستها، وعليه أوقفت الوزارة تلك البرامج دون مراجعة لماهية الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ذلك الضعف في مخرجات الانتساب، والذي هو في الحقيقة جزء من ضعف مخرجات الجامعات بصفة عامة، وهو حصيلة لما يجري في الجامعات من فساد في التوظيف للأكاديميين وللقيادات الإدارية، وفساد إداري في الالتزام بالجودة في معايير الأداء الإداري والأكاديمي، والذي يتناقض مع ما تسجله الأوراق والملفات الرسمية للجامعات، والتي تؤكد معلومات غير حقيقية وليست منفذة على أرض الواقع من الجودة المؤسسية والأكاديمية، والتي تمُنح بموجبها الجامعة الاعتماد الرسمي المؤسسي والبرامجي وهي لا تستحقه.

وما يقال عن ضحايا مخرجات الانتساب والتعليم الموازي، يتكرر ذاته عن مخرجات معظم وليس كل الجامعات الخاصة أو الأهلية، وهو ضعف المخرجات، وذلك رغم أن وزارة التعليم كانت الداعم الأول لتلك الجامعات، سواء في منحها رخصة الإنشاء، أو فيما تحملت تكاليفه المادية خلال التزامها ببرنامج الابتعاث الداخلي لتلك الجامعات لسنوات خلت.

والتساؤل المطروح: أين الخلل في تلك السياسات جميعها، والتي أفرزت مخرجات ضعيفة؟! ومن يعوض الطلاب والطالبات عن سنوات قضوها من عمرهم في الدراسة وتحملوا تكاليفها «الانتساب»، رغم صعوبة ظروفهم، وهم لا يجدون اعترافا رسميا بمؤهلاتهم تتيح لهم التوظيف؟! من يتحمل مسؤولية ضعف مستواهم العلمي وعدم توظيفهم؟! وذلك يجري على معظم مخرجات التعليم الأهلي والانتساب بصفة خاصة.

من المعروف أن معظم مؤسسات التعليم العالي الأهلية تستهدف الربح، فهي مؤسسات تجارية في المقام الأول، وبناء على ذلك فهي -بلا شك- تستقطب الأكاديميين الأقل تكلفة والأضعف جودة، خاصة في ظل غياب مراقبة ومتابعة الجهات المسؤولة عن التعليم العالي في الوزارة، لواقع التعليم وطبيعة مساره الفعلي ومستوى جودته قبل أن يصبح طلابه خريجين، سواء في برامج الانتظام أو الانتساب أو في التعليم الأهلي أو الموازي.

التساؤل: أين كانت الوزارة طوال تلك السنوات، بل العقود، من تطبيق برنامج الانتساب؟!

وبمراجعة برامج التعليم المنفذة في كثير من دول العالم المتقدمة والرائدة في التعليم، نجد أن جميع تلك المسارات ما زالت متاحة بتنوعها الذي يتيح تحقيق الهدف من تلك البرامج، كما أن مخرجاتها تتمتع بمستوى جيد من الجودة، بما يسمح لها بالتوظيف، وبما يحقق لأفرادها التمكين المطلوب، والذي ينعكس على تنمية شاملة ومستدامة لجميع أفراد المجتمع بمختلف شرائحه.

إذن، فإن الخلل يرجع إلى ضعف إدارة تلك البرامج من الوزارة ذاتها وتحت مظلة الجامعات، والذي أدى إلى تلك النتائج الوخيمة، والتي يتحملها الطلاب والطالبات بتعطيل تمكينهم من التوظيف، علاوة على ما تحّمله الوطن من هدر لأموال أُنفقت في تلك البرامج التي تتحمل الوزارة مسؤوليتها، وتكاليف ضائعة لم نحصد ثمارها وطنيا، ولم تحقق الهدف منها.

ومما يجدر التنويه إليه، أن انتهاج المرونة في السياسات والإجراءات الخاصة بالانتساب وغيره من مسارات التعليم غير المنتظم؛ لا يعني التسيُب في الأداء، والفوضى في الإدارة وغياب الجودة في معايير التدريس والتقييم للطلاب والطالبات، وإلا فإن إغلاقها كان حتميا في الدول المتقدمة لجميع تلك المسارات التعليمية، ولكن الجودة في إدارة تلك البرامج في الدول المتقدمة، ومتابعة مستوى مخرجاتها وآلية الأداء الأكاديمي فيها وتقييمه المستمر ومتابعته، كان كفيلا باستمرارها في العطاء لخدمة نشر التعليم، وتحقيق الهدف من وجودها؛ بتمكين مختلف شرائح المجتمع من التعليم باختلاف ظروفهم التي يعيشونها ومناطقهم التي يقطنونها، لتحقيق تنمية اجتماعية مستدامة شاملة لكل أفراد المجتمع، والتي أصبحت في عصرنا الحاضر حقوقا مستحقة لكل فرد ومواطن يعيش في إطار دولة.

من الضرورة المُلحّة، العمل على تشكيل لجنة متخصصة مسؤولة ومعنية بمعالجة أزمة مخرجات التعليم من الانتساب والموازي والتعليم الأهلي بتخصصاته المختلفة، بحيث تشرع اللجنة في وضع خطة عمل عاجلة تستهدف الاستفادة من تلك المخرجات وتمكينها بالتوظيف، وذلك قد يتطلب إعداد برنامج علمي منظم «مجاني» للرفع من تأهيل تلك المخرجات وإعدادها للتوظيف، والذي يتطلب بدوره دعم ومشاركة وزارة العمل في تحمل المسؤولية الوطنية تجاه تمكين المواطن، والاستفادة منه كمورد بشري يسهم في بناء لَبِنَات الوطن ويشارك في رسم مستقبله، ويعمل على تحقيقه، وإن نجاحنا في إدارة مواردنا البشرية والاستفادة منها، لهو كفيل بتمكيننا من تحقيق التنمية المستدامة الشاملة لجميع أفراد المجتمع، بما ينعكس على رخاء وطني ورفاه اجتماعي، بل ويسهم في معالجة كثير من تحدياتنا التي نعيشها.