كتاب وليم غاي كار «أحجار على رقعة الشطرنج» طُبِع بالعربية طبعات مختلفة كانت إحداها بعنوان «اليهود وراء كل جريمة» وليس هو العنوان الذي وضعه المؤلف، بل يبدو لي أنه العنوان الذي ارتآه خير الله الطلفاح -رحمه الله- لهذه الطبعة التي كتب لها مقدمة جميلة في غاية الإفادة، لأنه عنوان يدل مطابقةً على مضمون الكتاب، حيث يسير المؤلف على تفسير كل الآفات التي لحقت أوروبا في مطلع العصر الحديث، ثم لحقت العالم كله انطلاقا من أوروبا، على أنها من صُنع اليهود، حتى ما يَظُن كثير من الناس أنها تطورات إيجابية في التاريخ الغربي كالثورة الفرنسية ليست -حسب الكتاب- سوى أحداث زينها الإعلام اليهودي وزور تاريخها كي تبدو أحداثا مشرقة، وأخفى كل الحقائق البائسة والنتائج الأشد بؤسا، وليس كل ذلك لشيء سوى مصلحة اليهود في هذا العالم.

بذكاء شديد ومهارة فائقة استطاع المؤلف أن يربط كل تلك الأحداث باليهود ويجعلهم في نظر القارئ أصحاب قوة خارقة لا يمكن الوقوف في وجهها مطلقا، لذلك قال بعض الكُتَّاب: إن هذا الكتاب قَدَّم أكبر دعاية للصهيونية العالمية في الأربعينات والخمسينات الميلادية، ولم يستبعدوا أن يكون المؤلف أراد ذلك، وأنه كان مسخرا لهذه المهمة في زمن كان اليهود في حاجة لأن تهابهم الشعوب والحكومات، لا سيما الإسلامية، وبالفعل فهذا الفكر الذي تضمنه الكتاب قد فعل فعله حتى كان أكثر المنتمين للنخب العربية من علماء ومثقفين وقادة مؤمنين بأن كل شيء في العالم يدبره اليهود، وأن الدنيا ما هي إلا لُعبة إسرائيل، وهذه الجملة أيضا كانت عنوانا لإحدى الطبعات العربية لهذا الكتاب.

وقد أدى هذا الشعور إلى استسلام عجيب لفرضية تفوق اليهود وحتمية انتصارهم حتى قبل أن ينتصروا فعلا، وهذا هو السبب الأقوى من أسباب موافقة العرب على هُدْنَتَي حرب الثماني وأربعين، تلك الهدنتان اللتان لولاهما لما كان لهذا الكيان الصهيوني أن يقوم، ولانتصرت الجيوش العربية إذْ ذاك.

واستمر هذا الشعور يُدْعَم في البلاد العربية والإسلامية، ويتم بسرعة ترجمة الكتب الغربية التي تؤيد هذا الاتجاه، وكانت النخب العربية، لا سيما الدينية، يتناقلونها بسرعة بدافع من الحرص على إظهار الصورة السيئة للصهاينة أمام العالم، حيث تنجلي حقيقتهم شعبا ظالما مخادعا، ناكرا للجميل، حاقدا عنصريا قاتلا، وكان لذلك نتيجتان، محمودة ومذمومة، أما المحمودة فإذكاء الشعور بالخطر اليهودي والمؤامرة العالمية على العرب والمسلمين، أما المذمومة فإن ذلك كان واحدا من أسباب مشاعر الإحباط التي عانتها الشعوب، بل وعاناها كثير من القادة والسياسيين والكتاب والمحللين.

وفي أوروبا وأميركا كانت الدعاية الصهيونية على عكس ما هي عليه في العالم العربي والإسلامي، فالكتب التي تتحدث عن الهيمنة اليهودية على العالم كانت تحارب ويحارب مؤلفوها وناشروها، ولذلك نجد الأستاذ الأديب الأريب محمد خليفة التونسي -رحمه الله- في مقدمة ترجمته لبروتوكولات حكماء صهيون أوصى القراء بالمحافظة على النسخة التي بين أيديهم، لأن اليهود يحرصون على جمع نسخ هذا الكتاب في أي مكان يطبع وإتلافها، وذكر الأستاذ عباس محمود العقاد في مقدمته لترجمة تلميذه التونسي: أن هذا الكتاب يُحَارَب في أي لغة طُبع، بل إنه لم يُنشر في أوروبا عند دار نشر معروفة وكبيرة، وإنما لدى مطابع خيرية ودعوية، وكانت طبعاتها تنفد بعد ساعات ويتم إخفاؤها.

أقول: حق ما قاله التونسي والعقاد -رحمهما الله- حين كان الكتاب يُنْشر باللغات الأوروبية، لكن حينما نشره التونسي باللغة العربية لأول مرة لم تحصل له هذه المحاربة فيما أعلم، وطبع عدة طبعات وأظنه ما زال يُطبع، بل تمت له ترجمة أُخرى على يد الأستاذ الرائد أحمد عبدالغفور عطار، رحمه الله، لكنها ترجمة لم يُكتب لها الانتشار لسببين: أحدهما امتلاء السوق بترجمة خليفة التونسي، والآخر ضعف الدعاية والنشر لترجمة العطار.

وكذلك المحامي اليهودي ألفرد ليلينتال حينما ألف كتابه ثمن إسرائيل عام 1374 لم يكن له حظ الانتشار أو الترجمة في الغرب، مع أن الكتاب يخاطبهم أولا، لكنه انتشر في البلاد العربية واستُقْبِل مؤلفه عند القادة العرب، والكتاب يناقش قضايا عديدة من أبرزها في نظري سيطرة اليهود على الأمم المتحدة، ولعل ما ورد فيه كان بالنسبة للعرب رسالة تيئيس من أن يحرزوا أي نجاح في الأمم المتحدة، وبالفعل يبدو أن استجابة الدول العربية لهذا المؤثر النفسي كانت قوية، لذلك كان جانب الاستقطاب لديهم لتحصيل الأصوات ضعيفا إلى حدٍ كبير في سنوات متعاقبة تلت صدور الكتاب ورواجه بين الساسة والدبلوماسيين العرب.

وبالرغم من أن كِتَابي بول فندلي من يجرؤ على الكلام، ولا سكوت بعد اليوم، كان الشعب الأميركي هو المخاطب بهما، إلا أنهما حُورِبا هناك وحُورِب مؤلفهما، بينما انتشرا كثيرا في العالم العربي بترجمتهما العربية، وكانا يمثلان أقوى إعلان عن خضوع الولايات المتحدة للكنيست الصهيوني.

هذه أمثلة فقط لكتب كان لها -فيما أظن- أثر كبير في تشكيل المعنويات السياسية والدبلوماسية العربية في مواجهة الكيان الصهيوني.

وواضح أن هذه الكتب عدوة للصهاينة وتمت محاربتها في أوطان مؤلفيها، ومع ذلك لا أستبعد أن انتشارها في البلاد العربية كان محل رضا الصهاينة، إن لم يكن في بعض الأحيان محل تدبيرهم.

أما الرسالة التي كان الصهاينة يريدون بثها في أوروبا فهي مظلومية اليهود وضعفهم وشراسة خصومهم، لذلك يحاربون أي صوت مهما كان ضعيفاً يسعى لفضحهم هناك، وجعلوا من عداء السامية جريمة يُعَاقَب عليها كلُ من يقول كلمة تسيء لليهود، حتى ولو كانت مُؤَيَّدَة بحقائق الجغرافيا والتاريخ، كما فعلوا مع العشرات من الباحثين والصحفيين، ولعل من أشهرهم رجاء جارودي بعد تأليفه كتاب الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، فبالرغم من سِنِّه ومكانته الفكرية والسياسية لم يسلم من الحكم عليه بالسجن لمدة عامين بتهمة عداء السامية.

كراهية العرب لليهود التي لم تتكون على مر التاريخ عبثا، بل تتجدد أسبابها في كل عصر وحين، استغلها الصهاينة أيضا في مشاريعهم السياسية، ومنها نشر ما يدل على هذه الكراهية من مؤلفات ومقالات وخطب ومحاضرات لإقناع العالم بمزاعم مظلوميتهم، والخطر العظيم الذي يواجهونه من محيطهم العربي، والعمل الجاد للضغط على الحكومات العربية لتغيير خطابها الإعلامي ومناهجها الدراسية فيما يتعلق باليهود والعلاقة معهم، والمؤسف أن هذا المجهود الصهيوني لا يُقَابَل بنظير له من الإعلام والدبلوماسية العربية، مع أن المادة المتوافرة لدينا عن عدوانية المناهج الدراسية الصهيونية، لا سيما في المدارس الدينية، غزيرة جداً، والعجيب أن هناك عددا من البحوث المنشورة باللغة العربية عن العدوانية والكراهية والإرهاب في الكتب اليهودية والمناهج الصهيونية، لكن الجهود في ترجمتها وتزويد السفارات والدبلوماسيين العرب بها وترويجها إعلاميا ضعيف جدا، وآخر ما رأيت في ذلك كتاب الأصولية في الفكر الديني اليهودي والنصراني المعاصر للدكتورة حنان الهاشمي، وقد وفَّرَته مشكورة بالمجان اللجنة الثقافية لمهرجان الجنادرية الماضي، وأتمنى أن يحظى هذا الكتاب وأمثاله بالترويج الإعلامي لمادته ومضامينه.

وكذلك يعمل الصهاينة على استغلال تلك الكراهية لليهود في الترويج لأصدقائهم والإساءة لخصومهم.

ومن تطبيقات ذلك أن الدول الإسلامية ذات العلاقات الجيدة، بل والإستراتيجية بالكيان الصهيوني، تقوم الآلة الإعلامية والسياسية في تل أبيب بإظهارها في شكل أعداء لها من أجل أن تمنحهم جماهيرية لدى الشعوب، كما نرى تصريحاتهم وأفعالهم الظاهرية مثلا ضد إيران بالرغم من العلاقات المتينة بين حكومات الملالي المتعاقبة وبين تل أبيب منذ النشأة وحتى اليوم، وليس هذا المقال لتعداد مظاهرها، لذلك أقتصر على مثال واحد وهو الودائع الإيرانية في بنوك الكيان الصهيوني، والتي جاوزت الثلاثمئة مليون دولار، وافتضح أمرها بعد قرار رفع العقوبات في مفاوضات 5+1.

وكذلك نجد لهجة الصهاينة صاخبة ومسرحية في مواجهة تركيا، بالرغم من العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين أنقرة وتل أبيب، والتي لخصها إردوغان في كلمته التي ألقاها أمام الرئيس الصهيوني بقوله «من دواعي سرورنا أن نكون مع الشعب اليهودي من القرن الخامس عشر حتى الآن.. تحالف أجدادنا من أجل السلام، ولأننا أحفاد أجدادنا سنظل متحالفين لتحقيق السلام».

والأمر كذلك فيما يتعلق بقطر، فبالرغم من الزيارات المتبادلة والمعلنة بالصوت والصورة بين زعماء الفريقين والتمثيل التجاري والرياضي، إلا أن لهجة الإعلام والساسة والأمنيين الصهاينة تجاه قطر تخالف ظاهر العلاقة.

كما أن هذه الدول أيضا تحاول استدرار عواطف الشعوب وتغطية سوءة علاقاتها العميقة بهذا الكيان تحت اللهجة الحادة في الحديث عنه.

ويبدو جليا الأمر في أن الكيان الصهيوني يستخدم هذه الدول في تمزيق المنطقة حينا وفي تقوية جانبه حينا.

بينما نرى اللهجة الناعمة من الإعلام الصهيوني والساسة الصهاينة تجاه الدول المحافظة على حالة قطع العلاقات التامة معهم، كالسعودية والسودان، أو الدول التي تشهد علاقاتها معهم كثيرا من الشد والجذب كمصر، من أجل أن تضعف ثقة الشعوب بهم.

المحصلة من هذا الحديث أن وعي الجماهير يجب أن يزداد تجاه الدعاية الصهيونية، لأن استخدامهم الدقيق لنفسيات الجماهير قد يجعل منا من حيث لا نشعر ننفذ شيئا من مراداتهم ونسهم في تحقيق أهدافهم.