السلام عليكم ورحمة الله؛ هي الجملة الأولى التي شنفت أسماعنا عبر مكبرات الصوت وإمام الحرم النبوي الشريف ينهي بها صلاة الفجر. حينما توقفت مركبتنا أمام المركز السكني المجاور للحرم. أخذ كل منا يحمل متاعه ثم صعدنا إلى الدور العاشر حيث سيكون فيه سُكنانا.. أخذنا نتفقد زوايا المكان وإطلالاته، إذ به يُشرف من الناحية الشرقية على أجمل ما يمكن للعين أن تراه الحرم النبوي الشريف والصبح يتنفس من خلفه يشي بنهار غير نهارات العمر الماضية!

سرحت مشدوها فيما تراه العين، كان في مقدمة المشهد حديقة صغيرة بها بضع من نخيل سامق ومن بعدها المسجد النبوي، ما كانت الحديقة إلا المكان الذي شهد أُول ممارسة لاختيار خليفة للمسلمين، إنها سقيفة بني ساعدة التي لا تبعد عن الحجرات النبوية سوى بضع مئات من الأمتار، أغرقـت في التأمل واستحضار الزمن.. حتى خُيل ليّ أن أبخرة الندى المتصاعدة من أشجار الحديقة وسعف النخيل تحمل بصمة أصوات التهاني وبهجة الصحابة رضوان الله عليهم وهم يلتفون حول «أبي قحافة».. والفاروق بهامته يشد على يد خليفة المسلمين الأول، وحالة من الطمأنينة والسرور تغمر الجمع الصالح على استمرارية المنهج النبوي الشريف.. لم لا؟

 أليس الخليفة هو الصديق الذي كان أول من أسلم من الرجال وكان ثاني أثنين إذ هما في الغار، وهو من أم المصلين في حضرة المصطفى.. وهو من أنفق ماله وثروته لنصرة دعوة الإسلام؟

لحظات لا يعدلها شيء من بوح الزمن وقصصه، وفي غمرة ذلك الهيام الفاتن تستدير بانوراما المشهد نحو الشمال ليعانق النظر، من يحبنا ونحبه بعلوه الشامخ وهيبته المذهلة جبل أحد.. فتتماهى الروح أكثر في الركض كطفل في حديقة النبوة ومأرز الإيمان، وما هي إلا استدارة أخرى قصيرة ليصافحنا من جديد وتد ثان من أوتاد التاريخ «جبل سلع» حيث تختبئ الشمس خلفه عند كل مغيب..وهو الذي شهد تلكم الغزوة التي مارس فيها جيش الرسول تقنية دفاعية جديدة لم تعرفها الحروب في جزيرة العرب من قبل ألا وهي «الخندق»، الذي أشار بحفره الصحابي الجليل سلمان الفارسي.


 


يسروا ولا تعسروا


برغم قصر المسافة التي تفصلنا عن الحرم إلا أن استحثاث الخطى كان تلقائيا لاستعجال الوصول.. وها نحن ندلف من باب السلام، تستقبلنا الطيبات من روائح بخور ودهن العود وسط هيبة المكان واستبشار وجوه ركعت لله وسجدت، لم أمتلك قدرة التحكم في بصري وهو يطوف في أرجاء المسجد يتنقل بين الزخارف المبهرة والآيات الكريمة المدونة والأحاديث الشريفة.

حتى وقع البصر على حديث نبوي شريف زُين به مدخل الروضة الشريفة.. (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) بأبي أنت وأمي أيها الرحمة المهداة.. أين نحن من سماحة هذا الحديث وسمو معانيه؟ وأين نحن من قولك وأنت الذي لا ينطق عن الهوى (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا)؟، أين أهل الوعيد والثبور وتقريع العباد من هذا الحديث وأمثاله التي يندر أن نسمعها في خطب البعض ودروسهم؟.. إلا من رحم ربي من أولئك العلماء الأجلاء الراسخين في العلم، المستبشرين بعفو الله ورحمته.

وفي غمرة التأمل قفز إلى الذاكرة ما كنت قد قرأته في موقع من مواقع الإفتاء يسأل فيه سائل عن صحة هذا الحديث ويذيل تساؤله بما يشبه الاعتراض، حيث قال بالنص: «وإن كان رد فضيلتكم بصحة الحديث فإن مرتكب الكبيرة سوف يتمادى ويقول إن الرسول سوف يشفع لي». يا له من سائل هل يعد نفسه في مرتبة من العلم ليحاكم النص ويعترض عليه أم يرى أنه الأعلم بحال الأمة ألم يقرأ قول الله تعالى ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم (53) لا أحد ينكر مكر الله وعذابه ولكن يجب ألا ننكر رحمته ومغفرته وشفاعة نبيه، وننهج نهج التيئيس وغلق باب الرحمة أمام من عصى وأذنب، ونحن لا نملك لأنفسنا نفعا ولا ضرا، أليس في هذا الحديث ما يحبب المذنب في دينه ويشعره بسماحته ويدفعه لهجر المعاصي؟


 


التوسعة السعودية الأولى


سارت الخطى ثانية تلقاء جنبات الحرم وأروقته، تارة نلهج بالتهليل والتسبيح والصلاة على النبي، وأخرى تكتب الكاميرا آيات الجمال المعماري وفنون هندسته.

وما أن ناصفت المسافة للخروج بعد الصلاة وشرف السلام على الرسول وصاحبيه حتى صادفنا أحد أعمدة المسجد عليه تدوينة تعود إلى ربيع الأول 1373هـ جاء فيها «بنى بيده هذه الأحجار الأربعة جلالة الملك سعود تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم تقبل الله منه»، كان في ذلك إشارة إلى التوسعة السعودية الأولى للحرم النبوي، التفت خلفي ناحية مقدمة المسجد والمحراب لأقس المسافة بالنظر ثم ألتفت عن يميني وشمالي إذ ما أشاهده يفوق التصور. استرخيت على أحد المقاعد المنتشرة ومضيت أستعيد معلوماتي عن عمارة المسجد النبوي الشريف ومراحلها التاريخية، والذي بلغ في عصر النبوة (2480م) وبلغ بتوسعة عصري الفاروق وعثمان (5481م) ثم توالت عليه التوسعات في العصور الإسلامية حتى بلغ أقصى مساحة في عام 1265هـ أضيف إلى مساحته (1293م)، وكل هذه الزيادات مجتمعة لا تمثل نسبة تذكر قياسا بما هو عليه الحرم اليوم من سعة وساحات ومنافع عامة. فقد انطلقت التوسعات في العهد السعودي بزيادة (6024م)عام 1370هـ، ثم جاءت التوسعة الثانية في عهد الملك فيصل، والتي تمثلت في إضافة مظلات إلى أرض المسجد والتي بلغت مساحتها 35000م، وفي عهد الملك خالد تمت إضافة 43000م إلى أرض المسجد الخارجية.

وجاءت التوسعة الكبرى في عهد الملك فهد عام 1405هـ لتجعل من الحرم النبوي مدرسة لفن المعمار وهندسته، ليس في المملكة وحسب بل في العالم، إذ استحدثت أساليب مبتكرة في التكييف وحركة المظلات الداخلية والخارجية تعمل جميعها بتكنولوجيا حديثة، ناهيكم عن المساحة التي تضاعفت أضعافا مضاعفة فبلغ إجماليها 305000 متر مربع. وهذا يعني أن مساحة الحرم اليوم تقترب أو ربما تزيد على مساحة المدينة المنورة كاملة في العهد النبوي.. فلله الحمد من قبل ومن بعد!


 


عمارة المسجد النبوي الشريف ومراحلها التاريخية


 بلغ في عصر النبوة (2480م)

 في عصري الفاروق وعثمان (5481م)

 في عام 1265هـ أضيف إلى مساحته (1293م)

 التوسعات في العهد السعودي بزيادة (6024م)عام 1370هـ

 التوسعة الثانية في عهد الملك فيصل، إضافة مظلات إلى أرض المسجد وبلغت مساحتها 35000م

 في عهد الملك خالد تمت إضافة 43000م إلى أرض المسجد الخارجية.

 في عهد الملك فهد عام 1405 تضاعفت التوسعة فبلغ إجماليها 305000 متر مربع.