تتعالى أصوات المطورين القياديين على مستوى الدول المتطلعة للنماء، منادية بتطبيق نماذج نهضوية مستعارة من تجارب ناجحة لدول صنعت نموذجها المثالي، واستطاعت من خلاله قلب معادلة النمو، ورفع مستوى الدخل القومي، وأحدثت في بلدانها ثورة حضارية وصناعية يشار إلى نجاحاتها بإعجاب، مقارنة بما كانت عليه من حالات الفقر والتخلف والجهل والنبذ العنصري، حيث عززت دورها الإنساني والحضاري بمساهمتها المحورية في تغيير معادلات الاقتصاد العالمي، وتحقيق معدلات نمو مذهلة في وقت وجيز، وقد أبهرت تلك النماذج النهضوية كثيرا من الكتاب والمثقفين والقادة والمهتمين بثقافة النماء والتطور الإنساني، وحاول البعض في نطاق مسؤولياتهم واختصاصاتهم استنساخ تلك النماذج، وسعوا إلى نشر ثقافتها، خصوصا في مجالات التعليم والاقتصاد، ورأى البعض أنه من الممكن نمذجة البنية الحضارية بكل مكوناتها، دون النظر إلى الفارق بين البنية الثقافية والتكوين الفكري والسلوكي لمجتمعاتنا وتلك المجتمعات، ومدى الحاجة لاستنبات تلك الهياكل النهضوية النموذجية في مجتمعاتنا ودولنا ذات الرفاه المادي، بينما كانت الحاجة هناك بناء على الدوافع والأسباب والظروف الناجمة عن مستوى معيشي مؤلم بائس، ولّد لديها الرغبة في التخلص منه بأي سبيل يؤدي إلى شيء من التحسين، ولو بشكل بسيط شجع بعضها على استمرارية التحسين والتطوير حتى وصلت إلى مرحلة النجاح والتميز لتكون نموذجا.

إن ما عاشته مجتمعاتنا الخليجية -خصوصا- خلال الفترة الماضية في إطار خمسين عاما من ثراء اقتصادي نابع من المخزون النفطي الوفير، ومخرجات تلك الثروة الهائلة التي مكنتها من صناعة التأثير والتحكم العميق في مصدر الطاقة ومحور الاقتصاد الرئيس على مستوى العالم. فلم تكن بحاجة إلى صناعة أي مشروع تستعين به على توفير الدخل اللازم لسياساتها في الإنفاق على برامجها الداخلية والخارجية طوال تلك الفترة، بينما نجد أنفسنا الآن على أعتاب مرحلة جديدة تتجه فيها الأنظار إلى نموذجنا السعودي القادم لقيادة مشروع نهضوي نموذجي على مستوى المحيطين الإقليمي والعالمي، يعتمد على قدرات أبنائه في تحقيق أهدافه بعيدة المدى، مؤمنين أن المستقبل يفتح أبوابه نحو أفق جديد لا مكان فيه للثروات الناضبة التي طالما اتكأنا عليها كثيرا في الماضي، وبموازاة ذلك الانخراط في مجال تعزيز القدرات المالية والاقتصادية نجد اهتماما ملحوظا بمجالات أخرى هي أكثر تأثيرا لما تلعبه من دور بارز في النجاح، يتمثل ذلك في تطوير البنية الفكرية وصياغة الخطاب الثقافي العام بكل أشكاله ومجالاته، وتفتيت التكتلات والتشكيلات الفكرية المحيطة بالمجتمع ومؤسساته ذات الرؤية الأحادية المتوجسة من مشروع التطوير، المقاومة لمبادئ التغيير حتى ولو كان للأفضل تحسبا لفقد دورها الأيديولوجي.

وطالما أنها وجدت الرؤية السياسية التي تدفع كل محاور المشروع النهضوي بكل مكوناته المتنوعة فإننا في طريق صحيح -بإذن الله- لصياغة المستقبل الواعد الذي يفيد من مقوماته الخاصة وينبع من قيم المجتمع ويراعي المعطيات الإنسانية والمكانية، ويستفيد من التجارب الأخرى في حدود احتياجنا وما يتلاءم منها، ومواءمة مخرجاتها مع نسقنا الثقافي، فلطالما أشغلتنا بتفاصيلها وسياقاتها المنفردة فيما مضى وعقدنا المقارنات معها رغم اختلاف الظروف والدوافع كما ذكرت، كالنموذج الفنلندي والسنغافوري والكوري وغيرها من الدول التي حققت نموا سريعا في المجالات المعرفية والصناعية والاقتصادية.

وبإيماننا العميق بقدراتنا وطاقاتنا وميزاتنا المكانية وثقلنا الديني والسياسي والريادي سنكون -بإذن الله- قادرين على صناعة نموذجنا الحضاري الخاص بهويتنا السعودية، بإصرار قيادتنا وتخطيط مباشر من ولي العهد الأمير الشاب الذي حمل على عاتقه مسؤولية بنائه وإنجازه، مع إدراكنا أن مقومات النجاح التي نملكها أعظم بكثير مما تملكه بعض الدول المتحولة، فنحن نبدأ من مرحلة متقدمة نمتلك فيها القدرات الاقتصادية الهائلة التي تضمن لنا سبل النجاح وسرعة الإنجاز، ولسنا بحاجة إلى تحول جذري إلى نقيض ما نحن عليه، كما اضطرت بعض الدول لذلك -على سبيل المثال- رواندا، تلك الدولة التي طحنتها الحروب الأهلية وأذابتها الفرقة والفقر، وربما كانت في الذهنية الحضارية غير قادرة على التعافي من ويلات عذاباتها المتنوعة، إلا أنها أدركت بإرادة أبنائها أنها قادرة على الخروج من نفقها المظلم، فأصبح التحول الذي صنعته التجربة الرواندية يعتمد على النقض الجذري للوضع القائم، دون مقومات اقتصادية أو بشرية مؤهلة، لتبني مشروعها الحضاري الجديد من لا شيء، بدءا ببناء مؤسسات الدولة وخلق مبادرات وطنية وإعادة هيكلة المجتمع، فكان مقياسا لقدرات الشعوب على بناء نهضتها حينما تدرك حاجتها لذلك، وتؤمن بضرورة تفاعلها الإيجابي مع قيادة التغيير وصناع التطور.

وسنمضي نحن بقدراتنا الهائلة -بإذن الله- لتحقيق نهضة قياسية بنموذجنا الخاص بهويتنا السعودية وذائقتنا النابعة من قيمنا الدينية المعتدلة وتفاعلاتنا الإيجابية المليئة بالتفاؤل والأمل والثقة، لنصبح نموذجا عملاقا انتقل من ثقله الاقتصادي المعتمد على موارد النفط إلى ثقل آخر نابع من مقومات متنوعة تحتكم إلى قدرة الإنسان ومميزات المكان.