لم تكن لدي رغبة للعودة مرة أخرى والكتابة عن موضوع «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»؛ لولا أني رصدت في اليوم الذي كان مقررا لمجلس الشورى مناقشة توصية تعزيز دور هيئة الأمر الوقائي الميداني، وضبط السلوك العام ورعاية قيم المجتمع؛ خمسة مقالات كدفعة أولى على الحساب في يوم واحد، لأنه تبعها فيما بعد عدة مقالات و(برامج فضائية) جميعها اتفقت على «رفضها ونقدها للتوصية!» بل بعض من كتب لم يخفِ رغبته صراحة في عدم العودة إلى تلك التوصية لإعادة دور الهيئة.

وحقيقة فالأمر مستغرب جداً!، وكأن هؤلاء يجهلون أن من ضمن جهود الدولة كما ورد في المادة الثالثة والعشرين في الباب الخامس «الحقوق والواجبات» أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، كما ورد ضمن بنود النظام الأساسي للحكم الصادر عام 1412، مما جعل كثيرين يعبرون عن دهشته وامتعاضه من تلك الأقلام المعروفة التي لم تفتأ توجه أقلامها فورا وبحدة لنقد الهيئة، ولو لمجرد ذكرها واستعادة حصر أخطائها وإحصائها، وبدلا من ذكر مناقبها وما قدمت للمجتمع من سجل أمني ووقائي «عميت» أبصارهم عنها وظلوا يذكرون أخطاء رجالها، وينسون أن رجال الهيئة بشر لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وأنا أتساءل: إلى هذا الحد أصبح مجرد الحديث عن هيئة الأمر «مخيفا ومرعبا» لهؤلاء؟!.

 ثم هل في مصلحة المجتمع الذي نعمل على تقوية لحمته خاصة في الوقت الراهن خلق مرض اجتماعي جديد يسمى «فوبيا الهيئة»، من خلال صناعة كوابيس لدى أبناء المجتمع وإرعابهم من جهاز الهيئة، الذي هو يعد شعيرة دينية، ووصم كل من يكتب عنها أو يتعاطف مع رجالها بأنه «صحونجي إخونجي!»، مع أنه ورد ضمن بنود النظام الأساسي للحكم في الباب الثالث «مقومات المجتمع السعودي» ما نصه أن تعزيز الوحدة الوطنية واجب، وتمنع الدولة كل من يؤدي للفرقة والفتنة والانقسام، ليت هؤلاء يعلمون أن الدولة نفسها أعزها الله وأبقاها، دولة راعية للحق منذ قيامها على يد مؤسسها الملك عبدالعزيز رحمه الله، إلى عهد ملكنا سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده محمد بن سلمان، وهيئة الأمر تجد من كل ولاة أمرنا الدعم والسند والتشجيع.

 حقيقة ليس صعبا أن تتم تنمية مهارات رجال الهيئة مثل منسوبي أي دائرة حكومية ليقوموا بدورهم الأمني والوقائي في المجتمع، حتى مع التغيرات التي يشهدها بلدنا، ومن الخطأ تصويرهم على أنهم «بعبع» في المجتمع، وإظهار هيئة الأمر وكأنها عقبة في رؤية الوطن، لماذا هؤلاء بدلا من أسطوانتهم المتكررة عن «الهيئة» لا يفكرون بطريقة إيجابية، وعكس الأمر الذي صُورت به الهيئة، ونقول إنها ستكون عونا للدولة في تحقيق رؤيتها، وسندا لها في حفظ الذوق والأدب العام، خاصة أنها تخضع حاليا للتنظيمات الجديدة الصادرة عام 2016، والتي كان الهدف منها تقوية المحافظة على أمن الوطن واستقراره، الأمن الذي ننعم به في ظل دولة «لن تسمح لمتطرف أو منحل» أن يعبث بأمنه واطمئنان شعبها.

 ثم إذا كانت بلادنا «تفردت» بهذه الشعيرة بوجود جهاز ه«يئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، فما الذي يزعج هؤلاء ويضرهم من وجودها؟ ألا يعد وجودها ميزة وخصيصة تحسب لبلادنا عن بقية كل دول العالم، التي يوجد فيها ما يقابلها باسم «بوليس الآداب العامة» ثم أليس قيامها هو استجابة وطاعة لأمر الله الصريح في كتابه الكريم «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون»، ثم ألا يعلم هؤلاء أن قيام هيئة الأمر بالمعروف كان عام 1319هجرية، أي عندما دخل الملك عبدالعزيز الرياض، ووجد أن الشيخ عبدالعزيز بن عبداللطيف آل الشيخ يمارس الحسبة، فكلفه بولايتها والقيام بممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تعاظم دورها وظهرت جهودها، في ظل دعم ملوكنا رحمهم الله من بعده، ولم يتوقف ذلك الدعم في عهد سيدي الملك سلمان رعاه الله وأبقاه، وأصبح لها فروع في كل منطقة ومدينة، حتى أن الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه كتب كتابا في عام 1344 إلى أعيان وعلماء مكة المكرمة، يكلف فيه رجال الهيئة بالقيام بدورهم في الأسواق وحض الناس على الصلاة وحفظ الأمن، وكان رحمه الله يرى فيه كما أورد ذلك في خطابه «قوام الدين والدنيا»، ثم لماذا نقدهم لا يرى في جهاز هيئة الأمر بالمعروف سجلها الحافل بالإنجازات الذي لا ينكره إلا جاحد أو غير منصف، فكم ساهم رجالها في حفظ الأمن والآداب العامة، وكشفوا أوكار الفساد بكشفهم لمواقع صناعة الخمور والمسكرات التي كان يصنعها عدد من الوافدين في الجبال والأودية، وفي بعض المساكن الخربة المهجورة لإفساد شبابنا، وكم منعوا كثيرا من جرائم الابتزاز التي وقع فيهت عدد من البنات مع الذئاب البشرية، وكثير من الإنجازات التي يطول ذكرها هنا.

 في الختام، إذا كان هناك من أخطأ من رجال الهيئة، فكل أجهزة الدولة لها أخطاء، ولم نسمع من تلك الأقلام التي صنعت بعبع الهيئة من يدعو إلى إلغاء المرور أو البلدية أو هيئة الرياضة أو المواصلات أو الاتصالات على أخطائها، ومن أخطأ من رجال الهيئة فهناك أنظمة في البلد ستأخذ على يد كل مخطئ وينال العقاب، بل ويُبعد من الجهاز كلية، ولهذا فمن الظلم الحكم على جهاز الهيئة بأكمله بأنه جهاز فاشل ويجب طمسه من الوجود وإلغاؤه أو دمجه مع الشؤون الإسلامية، وجميعنا يعلم أن جهاز الهيئة طالته جملة من التنظيمات الجديدة تمثلت في قيام رجالها «بالدور التوجيهي والدور الوقائي ومساندة الجهات الأمنية، والتنسيق معها في ضبط المخالفات، ومراقبة الممنوعات التي تضر بشباب الوطن، وتقديم البلاغات»، ونوقش كثيرا وضع منسوبي الهيئة على أن يتم التدقيق في اختيار من ينتسب لهذا الجهاز، وأن يتم إعداده وتأهيله بشكل ينسجم مع أهدافه، ويتم تزويد رجالها بالخبرات والدورات التي تجعل منهم مهنيين ملتزمين مؤهلين للقيام بدورهم الديني والوطني دون الوقوع في أخطاء، كالأخطاء السابقة التي وقع فيها بعض رجال الجهاز، إما لقلة خبرة أو لزيادة حماس، وفي حالات برئت الهيئة من اتهامات ولم نسمع ناقديها ينصفونها حينها، ويمكن إخضاع الهيئة لمزيد من التطوير كي «تأمر بالمعروف وتنكر بالمعروف»، وهذا لا يمنع من تحديد واجبات رجالها وتنظيمها بشكل أكثر، والاستفادة من جهودهم في مساندة الدولة، وهذا ليس صعبا ولا مستحيلا.