(1)

 أعلم أني قاربت موضوع (المنهج)، وضرورة الاشتغال التعليمي لدينا على تعريف المتعلم بحتمية وجود الذهنية العلمية لديه، وأعلم في اللحظة ذاتها أني لو لم أكتب إلا في هذا الموضوع لارتاح ضميري واطمأن خاطري على أني كتبت المقاربة (التي أريدها)، والتي من شأنها النهوض بالمشهد التعليمي والثقافي لدينا، وجعلنا بالفعل نعيش لحظة (حضارية) خالصة بالفعل!

 كتبت عن (المنهجية) كثيرا، وعندما عرفت بأن ثمة مقرر دراسي سيقرر على طلاب (الثانوي) بعنوان (الفلسفة والتفكير الناقد) أصبحت الكتابة في تجليات الموضوع أكثر إلحاحا، فبدون وجود العقلية العلمية و(منهج) العلم والرؤية والتفكير لا يمكن إنتاج أي من أنماط التفكير (الإبداعي..الفلسفي..الناقد)!

 لا يمكن للظل أن يستقيم بعود أعوج حقا!، هل كنا نتوقع أن إنسانا (بشكل عام) مجردا من آلية التفكير العلمي يستطيع أن يتعلم بشكل صحيح ومنتج؟!

 ويفكر تفكيرا ناقدا (يجعله يقيس مستوى الدقة العلمية في المقروء، أو نسبة الاتساق المنطقي أو درجة البرهان، أو أن الاستنتاجات التي يقرأها مبنية على معطيات ومقدمات خاطئة؟!).

 إن اتباع منهج علمي محدد method أي طريقة محددة تعتمد على خطة واعية هي أهم ما يحتاجه الطالب في مراحل تعلمه المتقدمة والمتأخرة معا، وكذلك كل من ينتمي للعالم الأكاديمي والعالم الثقافي بشكل أو بآخر، لأن امتلاكها حقيقة يفضي إلى امتلاك الذهنية النقدية القادرة على الدخول في حوارية الأطياف والمفردات والشخوص العلمية، وكذلك امتلاك القدرة الموضوعية في الحكم على الأشياء، والنزاهة العلمية، والانعتاق من أهم معوقات التعليم والثقافة (الفكر الخرافي..الأسطوري..التقليدي..) والتعصب للآراء والإيديولوجيات والشخصيات والإقصاء للآخر المختلف!

 (2)

 إن تحقق هذه (المنهجية) يمكِّن الفرد لدينا من الاستفادة من المعلومات التي يتلقاها في المدارس والجامعات والمساجد ووسائل التواصل المعلوماتية، ليشتغل بعد ذلك على تحويلها إلى معارف فاعلة ومنتجة وحقيقية. وبالتالي فإن غياب ذلك المنهج العلمي المحدد يفسر لنا كثيرا من المشاهد البائسة في واقعنا المحلي: كانعدام المخرجات المنتظرة من مؤسسات التعليم بأنواعها، وزخم الأحكام الجاهزة التي تطلق بين الحين والآخر عن تصنيف الشخصيات والكتب والخطابات الأدبية والفنية والثقافية، والمواقف المتواترة حول (المرأة)، والتي نظل ندور في فلكها إلى ما لا نهاية، كما يفسر لنا ذلك الغياب المرير حقيقة الآراء الساذجة التي تصدر من متعلمين ومثقفين وأكاديميين، والتي عادة ما تزخر بملامح انطباعية وانفعالية بالغة!

 (3)

 ووفقا لذلك فإن من الحتمي والواجب أن يكون فعل عمال المعرفة (الإبستمولوجيين) لدينا هو الكشف عن ملامح هذه (المنهجية) التي أفضت إلى إنتاج كل تلك الثقافات والمعارف المؤثرة في خطاب مجتمعات الحضارة، وليس فقط (رصد) المعلومات (الأمبريقية) التي أنتجتها. أما إذا كان إنسان المعرفة منشغلا بالأفكار ذات الصبغة الإيديولوجية أو الفلسفية، فإن الإبستمولوجيا تتحول إلى أنطولوجيا لا تتحقق بها السعة والشمولية والموضوعية، التي تتميز بها العقلية الحضارية الفاعلة.

 (4)

هل فهمنا الآن الفقر المعرفي الهائل الذي يعيشه معظم شبابنا المتعلم، وهو يدرس علوما ومعلومات لا يعرف غايتها، ولا الرابط بينها، ولا تأثيراتها في واقعه العلمي والعملي، فيصعب عليه -مثلا- الخروج برؤية جديدة أو صياغة مقاربة بحثية بسيطة (لا تعتمد على الاستقراء فقط)..! وربما فهمنا سويا السبب الذي يجعل أكاديميا يردد دائما مقولات عاطفية أسيرة للذهنية الشعبية أو المناطقية أو القبائلية، وهو لا يفرق عادة بين (المعلومة) و(ثقافتها/آلية إنتاجها)، وقد يحرج ويتوتر وهو لا يدري كيف يطرح خطاب (ديكارت) أمام طلابه، أو كيف يخرج من مأزق (هيجل) وهو يحاضر عن فلسفة الجمال؟! ومثل هاتين الشخصيتين في ذهنيته (الجمعية) علمانيون ومفسدون!

 (5)

 وفي هذه الأثناء يؤكد توماس كون أن «العلم ليس ظاهرة فردية، فهو ظاهرة جماعية تحمل الهم العلمي ذاته»، وهذه الجماعة العلمية تتشكل على أسس أخلاقية وأخرى معرفية تتكون من مجموعة القوانين والأدوات (المنهجية)، التي يمارس الباحثون بحوثهم على ضوئها.. وتتوالى الأسئلة في هذا الصدد، فهل لدينا مثل تلك (الجماعات العلمية) التي (يتشرعن) عنها مفهوم العلم؟ وهل حملت غايات وأنشطة مؤسساتنا العلمية والتعليمية والثقافية ذلك (الهم الجماعي العلمي)؟ أم أننا نرتهن دائما إلى جهود فردية واجتهادات شخصية ومخرجات ثقافية نخبوية؟

 أم أن المسألة (حشو) العقول الناشئة بمعلومات (مكثفة) من هنا وهناك..لا تبلغ الغاية، ولاتصل للعقول إلا (معلبة جاهزة باردة) بدلا من أن (تتخلق) في حضرة جماعات علمية متنوعة؟!

 (6)

 العقول المعطلة لا يمكن أن تنتج أفكارا إيجابية.. منتجة..صحيحة، مهما اكتسبت من علوم ومعلومات. كما أن عمل العقول المنفردة..النخبوية التي لا تنتمي إلى أي سياق علمي جماعي سيذهب هباء بلا تأثير وفاعلية، فخلل عمل (البوصلة) دائما ما يقود إلى ضياع سحيق في متاهات العبث والعدم!!