كانت الصحف الورقية في الماضي هي العنصر الأبرز لتلقي الأخبار وتأكيدها عند كل الناس، وحتى مع وجود الإذاعة والتليفزيون ظلت الصحف الورقية منفردة بالتقارير المصورة المتلاحقة لأي حدث، ولم تخسر موقعها مع اشتداد التنافس بين ذلك الثلاثي الذي لم يلغ بعضه بعضا، واستمر التناغم بينهما لعدة عقود.

لكن المنصات اليوم اختلفت اختلافا جذريا، وتغير مع ذلك الاختلاف مفهوم الفضاء الإعلامي، مما جعل مصطلح المنافسة مصطلحا وصفيا لحالة تفتقر إلى موضوعية المقارنة، على الرغم من تمتع وسائل الإعلام التقليدية بقوة أرضية المهنية والمصداقية والنزاهة.

في الإعلام التقليدي الذي تمثله الصحف الورقية والتليفزيون والإذاعة، عكس لنا الصحفيون عبر مهنيتهم وتدقيقهم في صحة المعلومة أو الخبر وطريقة صياغتها المشوقة، معنى الثقة في الإعلام.

مؤخرا، خسرت المعلومة الكثير من جنودها على جبهة المصداقية والمهنية، وأصبح من السهل جدا التلاعب بمحتواها وتوجيهها حيث شاء المتحكم بحبالها وأدواتها، ومع تطور تقنية الصورة، بات الأمر معقدا جدا، ويحتاج في كثير من الأوقات إلى تدقيق عميق، فقد تسبب تزوير الصورة في معاناة وإرباك المتلقين، وأصبحت احتمالات وصول الخبر المزيف إلى مساحات أعرض في الشارع أعلى دون شك، والمخيف على هذا المستوى أن تتخذ مستقبلا تدابير صارمة عمياء تجاه المحتوى الإعلامي، لا تفرق فيه بين الحقيقي والمزيف، وتحكم على الاثنين من زاوية العذر الأشهر في العالم (ما تقتضيه المصلحة العامة)، عبر إعادة تعريف معايير المحتوى الموجه للشارع، وهذه نقطة خطرة جدا، وقد تفرض بالتدريج قوانين خاصة كلما اتسعت دائرة خيارات التواصل الاجتماعي، وهو ما يعلنه المستقبل حتى الآن بوضوح إذا ما علمنا أن الاحتياجات التي قامت عليها وسائل التواصل الحديثة، (جهاز اتصال + مزود خدمة اتصال + شبكة إنترنت + موقع أو برنامج للتواصل + طرفان للمحادثة)، قد قفزت إلى مستويات أعلى فائقة الجودة، وأكثر وأسرع في الوقت الراهن، وأصبح الاحتياج إلى اتصالات التقنية فيما يبشر به المستقبل، مثل السيارة الذكية، والمنزل الذكي، والشارع الذكي، والمدينة الذكية، وما سيمثله نظام الجيل الخامس G5 من قفزة هائلة كما يقول المبرمجون على مستوى عالم التقنية، وتأملوا معي ما ستفرضه تلك المتغيرات من رؤية لماهية الإعلام ومفهومه.

وسط هذا التسارع لوسائل الاتصال في العالم، أنا على يقين بأن عالم الإعلام والتواصل ونقل المعلومة مقبل على مواجهة فرض قوانين قاسية وربما تعسفية في بعض الأحيان، بسبب الاستخدام غير النزيه لوسائل الاتصال والتواصل الحديثة أو الاستخدام العشوائي من قبل المستخدمين الجدد، وتحويلها من أدوات خادمة للبشرية إلى أسلحة مدمرة للمجتمعات الإنسانية عبر نشر الأخبار القذرة الكاذبة، بقصد أو بغير قصد.

وقريبا من ذلك أشار تقرير لمعهد رويترز لدراسة الصحافة في جامعة أكسفورد صدر مؤخرا، إلى أن «الاستماع إلى الأخبار الكاذبة يقتصر أساسا على المجموعات التي تسعى إلى توحيد وجهة نظرهم وأحكامهم المسبقة، ومع ذلك، هذا لا يجعل الأخبار الكاذبة أقل خطورة، فهي تغذي الاستقطاب، ومن المفارقات أن مناقشتها يمكن أن تزيد من خطورتها».

وهو ما يعني تقويض قوة الإعلام عبر إضعاف الثقة فيه، الأمر الذي يترتب عليه وقوع المتلقي في الحيرة والشك في حقيقة الخبر ومصداقية الصحفي ونزاهة المؤسسة الإعلامية، وهذا يضع مسؤولية بذل مجهودات أكبر على عاتق المؤسسات الصحافية أمرا حتميا، إذا ما أرادت أن تكون متواجدة في المشهد الإعلامي المستقبلي.

 ويبدو أن العالم الثالث قد ينتج عالما أكثر تخلفا بمرور الأيام، والإعلام سيكون هو الضحية الرئيسة لوسائل الاتصال والتواصل الحديثة، وقطعا، الأخبار الكاذبة والمضللة التي تسوقها.

لكن هل هناك ما يمكن فعله لمعالجة المشكلة؟

أظن أن ذلك غير ممكن في الوقت الراهن، وهو ما أكده فشل الحلول الحالية التي تؤيد حجب المواقع، وأتوقع أن ارتفاع معدلات الوعي بالتزامن مع سن قوانين احترام الخصوصية، سيحد من المشكلة لكنه لن يقضي عليها طالما وُجد الانتهازيون وأصحاب المصالح الخاصة.