المواطنة الصالحة تقتضي من المواطن أياً كان موقعه: الديانة والأمانة والصدق والإخلاص، والمحافظة على كيان الوطن ومقدراته، وحسن التعامل مع الراعي والرعية، والبعد عن الغش والكذب والتملق والإثارة والفساد بجميع صوره وأشكاله.

والخوف من الله تعالى يحقق كل صفات المواطنة الصالحة، صحيح أن تطبيق الحدود الشرعية، والأنظمة المرعية، والمتابعة الدقيقة، لها أثر في منع الفساد أو تقليله، ولكن لا شيء مثل تأثير الوازع الديني في نفس المسلم، فمن كان يخاف الله ويراقبه ويتقيه فإنه لا يظلم، ولا يغش، ولا يأكل مالا حراما، ولا يسيء لدينه ووطنه وقيادته ومجتمعه، بل ولا يسيء لأحد كائنا من كان، حتى الطيور والحيوانات لا يسيء إليها، لأنه يخاف الله.

فهو يعلم أن امرأة دخلت النار بسبب هرة حبستها، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. ويعلم أن امرأة زانية غفر الله لها بسبب أنها سقت كلباً كان يأكل الثرى من العطش، هذا جزاء من أحسن إلى كلب، مع نجاسة الكلب، وكون الإناء يُغسل سبع مرات إذا ولغ فيه كلب، فكيف بمن أحسن لإنسان؟ وكيف إذا كان هذا الإنسان مسلما؟ وكيف إذا كان أجيرا لخدمة الناس مقابل مبالغ مالية يتسلمها؟

من استحضر ذلك، فإنه لا يماطل في معاملة غيره ممن كُلِّف بخدمتهم؟ فضلا أن يخون أمانته بالتعدي على ما لا يحل له؟

إن الخوف من الله يحول بين المرء وبين معصية الله، ويحول بينه وبين التعدي على حقوق عباد الله، بل ويحول بينه وبين أذية الطيور وفجيعتها، فقد قال أحد الصحابة رضي الله عنهم كنا مع النبي عليه السلام في مقبرة فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة تفرش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها»، فبادروا بردها بعد أن علموا أن ذلك لا يحل لهم.

والذي يخاف الله يتقي الشبهات وإن لم تكن حراما بيِّناً، رغبة في استبراء دينه، وخشية أن يحوم حول الحمى فيقع فيه، وحتى لو أفتاه الناس وأفتوه، فهو أعلم بنفسه، لا يبحث عن المخارج والحيل، ولا يُكَيِّف النظام ليتوافق مع رغباته في أخذ ما لا يحل له، لأنه يعلم أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

كثير من الناس اليوم يتحدثون عن الوطنية، ولكن بعضهم يخالف مقتضيات المواطنة الصالحة، فالحلال ما حلّ في أيديهم من أي طريق كان، وتعاملهم مع الناس بفظاظة وغلظة، ويغشون غيرهم ممن يرجون منه عَرَضاً من الدنيا بالثناء الكاذب، والتملق الممجوج.

ولكن بحمد الله هناك نماذج كثيرة مشرفة للمواطنة الصالحة، منها: أن شيخنا ابن عثيمين رحمه الله رد المبالغ الذي أعطيها مقابل تأليفه كتب المعاهد العلمية، ردها لأنه مدرس ويأخذ راتب التدريس، فلما قال له المسؤولون في الجامعة النظام يجيز ذلك، قال: لكن الشرع لا يجيز ذلك.

ولما ركب سيارة الدولة إلى الجامعة واحتاج أن يذهب خارج الجامعة لشراء حاجيات من السوق، لم يستعمل سيارة الدولة، بل نزل منها وركب مع أحد طلابه ليوصله إلى السوق، وقال سيارة الدولة للأغراض الرسمية فقط، واستعمالها لغير ذلك محرم، ومعلوم أنه ما منعه من ذلك إلا الخوف من الله ومراقبته.

وقبل أيام سمعت مقطعا صوتيا للوزير علي النعيمي قال فيه: إن الملك عبدالله رحمه الله عندما كان ولياً للعهد، أخذه جانبا، وقال له: لا تخف من فهد ولا من عبدالله ولا من سلطان (رحمهم الله جميعا) خف من الله تعالى، يقول الوزير فوقعت الوصية في نفسي موقعا عظيما، واستفاد منها.

فما أعظمها من وصية، وما أعظم ثمرتها على البلاد والعباد، لقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه يظل في ظله يوم لا ظل إلا ظله من خافه، وقدم خوفه سبحانه على المغريات، فمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني: أخاف الله) لم يقل أخاف أن يفتضح أمرنا، أو يظهر علينا أحد، وإنما قال (إني أخاف الله).