(فعاليات السطوح)

حينما كنا صغارا لا يسمح لنا بالخروج بعد انقضاء ساعات النهار، كانت هناك أحداث صغيرة تبرم لما بعد صلاة العشاء، أشبه ما تكون بحفلة صغيرة في ليالي الصيف، يتم تناول وجبة العشاء في الثلث الأول في فترة ما بين العشاءين، وبعد صلاة العشاء تصعد نساء الأسرة: الأم (الجدة بالنسبة للصغار)، والبنات وزوجات الأبناء، وكان الأبناء الكبار غالبا ما يقضون المساء حتى منتصف الليل خارج البيت، في جلسات السمر التي يطلق عليها (الشبَّات)، والتي تكون في البيوت أو (القهاوى) المنتشرة ذلك الزمان، أو في البر القريب، أو على أحد الأرصفة الخالية من السيارات والمارَّة، كل ذلك حسب ظروف العمل والدوام، وليس حديثنا عن هذا، إنما حديثنا، عما يحدث في البيوت في تلك المساءات الصيفية العليلة، إذ إن خروجهن خارج المنزل نادر جدا ما يكون وقت المساء.

تفرش البنات فراش الجد والجدة، غير بعيد عن بعضهما، وربما تنحى الجد قليلا، لينعم بهدوء أكثر، ويكون بعيدا عن همسات الصغار وتساؤلاتهم الصغيرة عن كيف ولماذا، التي تخترق كل حديث وأي حديث.

يبدأ الصغار بتناهب الأماكن حول فراش الجدَّة، هذا عن اليمين وذاك عن اليسار، وثالث يتفتق ذهنه عن اختيار مبدع وهو موازاة رأس الجدة، ليكتشف بعد برهة، حينما تستلقي الجدة، أنه مكان مهمش.

(سينما الجدة)

تبدأ الجدة بسرد الحكايات الواحدة تلو الأخرى، وعندها نسبح في فضاءات عميقة من الخيالات التي تتعاقب فيها الصور الثابتة والمتحركة، وتعمل عقولنا الصغيرة على تحليل الكلمات وتحويلها إلى صور في جزء من الثانية مع المتابعة الدقيقة بكل شغف لذكريات الجدة وحكاياتها.

والجدات غالبا ما يكن أسطورة في القص، والسرد، فقد كن يجعلن من قصة عادية لوحة مليئة بالألوان والأضواء والأزهار، والأشجار، والأشواق، تشد الكبير قبل الصغير، وربما عطلت في بعض الليالي أحد الأبناء الكبار، عن أصحابه وأسماره، حينما يمر من حولنا متخطيا موضع جلستنا فيلتقط سمعه كلمات من حكاية طرقت أذنه عشرات المرات، فيتوقف ويجلس ويستمع، فتَجْذُل لذلك الأم، وتزويق حكايتها أكثر لتجذب ابنها للبقاء كما كانت الأيام الخوالي، حينما كانوا أطفالا، غير أن متطلبات الرجولة العربية تقضي بغير ذلك، فيضطر الابن لنزع نفسه من الجلسة للحاق بموعده، تحفه دعوات الأم وتوصياتها.

كنا مع الجدة في حقيقة الأمر، وكأننا أمام (ما يطلبه المستمعون)، والسؤال الذي ننتظره على أحر من الجمر، (وش تبون أقص عليكم؟).

كنا نقوم بدفع تذكرة دخول، لسينما الجدة الصوتي، عبارة عن «تهميز الماطاة»، وهو عمل من أرجأ الأعمال التي يعملها المرء في حياته عند الله، لما فيه من تخفيف لآلام الأقدام ولهيبها، والتي أتعبها كثرة المسير في دروب الحياة، ولما فيه من إبهاج وحبور يدخل على قلب الجدة عطفا على كلمات الامتنان والتشجيع التي تبدأ بالكلمة المحببة التي تدخل بعض الخدر في رؤوسنا الصغيرة من لذتها وحميميتها، وتطلق طاقة كبيرة في أيدينا: (إيه! يا جنيني)، وهذا العمل بالمناسبة هو عبارة عن مساج مصغر للقدمين، والمواطئ منها تحديدا.

كان أجمل ما في سردية الجدة، تلك الأصوات المختلفة مترنمة أو حزينة أو فرائحية أو تخويفية... إلخ، غير أن أجملها في أذني حتى هذه اللحظة تلك التي تأتي لترطيب الشفاه التي تجف سريعا مع الكلام المسترسل، وتتبعها بطقة من أثر انفصال اللسان عن اللهاة، أو تلك التنهدات من حال أبطال القصة، حينما تربطها الجدة بأبطال الحيوات الخاصة المشهودة أو المخفية.

(مكيفات هواء من قماش)

في بعض الليالي يكون الهواء ساكنا، فترتفع درجة الحرارة، ولا يتمكن الصغار من الاستسلام للنوم بسهولة، فتأمر الجدة فيؤتى بالشراشف، فتؤخذ هذه الأقمشة وتبلل بالماء ثم تعصر بقوة وذلك بليِّ القماش من الطرفين، إذ تمسك كل بنت بطرف وتلويه باتجاه معاكس للأخرى، حتى تنزل آخر قطرة من الماء، ثم تمسك كل منهما بطرفي القماش من جهتها لتصنعا مظلة مربعة الشكل، وحينما تستقر المظلة فوقك وأنت مستلقٍ في فراشك بمسافة لا تزيد على المتر ونصف المتر، تهوي الكريمتان بالقماش المبلل إلى مسافة النصف متر الفاصلة بينك وبين تدثرك بالقماش، ثم ترفعانها بسرعة عدة مرات ليصنعا تيارا هوائيا منعشا، تكاد قلوبنا الغضة تفر من صدورنا فرحا وجذلا بهذا البراد المطري لكل يباس في نفوسنا.

(ألذ الطعام والشراب)

توضع في الصيف، عدة حبات من البطيخ، قريبا من برادة الماء الكبيرة كثيرة التماس بالكهرباء، والتي دخلت البيوت في سنوات متأخرة حينها، أو داخل حوض النخلة التي لا تخلو منها بيوتنا -حينها-، وتغطى ثمرات البطيخ بأكياس الخيش، بعد أن تفرغ من محتوياتها من الأرز في حاويات من الصفيح، وكان من يأتي للشرب أو لسقيا النخلة يتبرع برش الماء على أكياس الخيش لتبريد البطيخ، وفي المساء يؤتى بالبطيخة وتقسم نصفين، وتوضع في العراء ليهب عليها الهواء فتكون باردة بشكل يطفئ لهيب القلوب الولهى أو الموجوعة، لتمر لحظات ينسى بها الكبار الهموم، وتتشكل ذاكرة الصبيان ليرووا ما حدث فيما بعد.

وفي ذكرى اندثر واقعها، كانت شاحنة مصنع الجميح للمرطبات تمر عصرا وتقف أمام كل منزل في الحارة تقريبا، لتنزل مجموعة كبيرة من الصناديق البلاستيكية المتينة جدا، وبداخلها خانات وفي كل خانة قنينة زجاجية قوية أيضا ومتينة، بألوان ثلاثة: برتقالي، وأخضر، وأسود، يأخذ العامل القناني الفارغة ويضع مكانها القناني المملوءة، ثلاثة من الأول، وثلاثة من الثاني، وستة من الثالث، كنا نطلق على الأول (برندا)، وعلى الثاني (تيم) وعلى الثالث (ببس)، يمكن تفسير اختفاء الميم والياء من كلمة (ميراندا) لصعوبة نطقها على الصغار، ولكن اختفاء ياءي (بيبسي) عند الكبار والصغار لم أجد له مبررا مقنعا حتى هذه الساعة، وعلى كل صار هذا المشروب الأسود حبيبا وقريبا ومسليا للروح والنفس، وربما تعلمنا بفضله سلوكيات عديدة، حيث كان سيدي الوالد -حفظه الله- يشدد علينا في أمور الذوقيات بدرجة كبيرة، ومثال ذلك: أننا حينما ننعم بحضرة الوالد (بقارورة ببس)، لا نسارع إلى فكها بأسناننا كما نفعل عادة، بل ننتظر حتى يأتي (مقراض الصلصة) كما نطلق عليه، -وهو مفك مخصص لفتح العلب المعدنية كافة وليس (الصلصة) فقط-، إذ يوجد في نهاية هذا المفك، مفك مدمج في أحد ذراعيه مخصص لفك أغطية المشروبات الغازية الزجاجية، وبعد فتح الزجاجة نسارع إلى إلقامها الفم بسرعة البرق، وهذه كارثة أخرى، وسلوك غير مقبول، فلا يجوز ذوقيا ابتلاع كامل عنق الزجاجة للشرب، بل يجب توضع فوتها بطريقة معينة على الشفاه فقط، وبعد التقيد بكل التعليمات تأتي أم الكوارث التي لا نملك معها صرفا ولا عدلا، إذ تتفاجأ المعدة المسكينة بكمية كبيرة من هذا السائل الأسود المحرق المليء بالغاز، فتكون ردة فعلها المبررة، على شكل تجشؤ -أكرمكم الله-، وخوفا من لوم الوالد نضطر إلى كتمه، وهنا لا تنتهي المشكلة بل تزيد، إذ إن هذه الغازات تبحث عن أقرب منفذ وهو الأنف، ليصاب بحرقة شديدة في جيوبه، تتسبب بسيلان غزير من الدموع، ومع هذا كله يبقى المشروب الألذ.

سقى الله أياما كانت الهموم وكل المشكلات تنجلي، مع إغماضة العين في المساء على صوت الراديو بيد الجدة وهي تحركه يمينا وشمالا بحثا عن إذاعة (مونتكارلو).