البعض تؤذيه كلمة «الثوابت والمتغيرات»، خصوصا عندما يأتي بها قائلها وسط كلام يخص الدين، فيظن السامع أن في هذا تعدّيا على قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»، وأن الأحكام ثابتة، ولا يمكن تغييرها، وكلام طويل آخر لا ينتهي.

من باب جمع الرأي، لن أدخل في جدل صحة إثبات الاحتجاج بالمقولة أو عدم ذلك، لكني في الوقت ذاته أستطيع أن أؤكد أنه لا خلاف بين أصحاب العقول الواعية، في أن اجتهادات العلماء متغيرة، وقابلة للتغير، وأنه لا قداسة لمقولة أحد، وكما قال سيدنا عبدالله بن عباس، رضي الله عنهما، «ليس أحد إلا يؤخذ من قوله، ويُدع، غير النبي، صلى الله عليه وسلم»، أخرجه الإمام الطبراني، في «معجمه»، وبعده تكررت المقولة واشتهرت على ألسنة كثيرين، وعلى رأسهم إمام دار الهجرة، الإمام مالك.

يذكر الإمام ابن القيّم، رحمه الله، وهو من هو في علمه وفقهه، في فصل «كتاب عمر في القضاء وشرحه» من كتاب «أعلام الموقعين عن رب العالمين»، مسألة عنوانها «قد يتغير الحكم بتغير الاجتهاد»، يقول تحتها: «لا يمنعنك قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه رأيك وهديت فيه لرشدك، أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم، ولا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل

-مستشهدا- بأن سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قضى في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وإخوتها لأبيها وأمها وأخويها لأمها، فأشرك بين الإخوة للأم والأب والإخوة للأم في الثلث، فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا، فقال له: تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم..»، وتسمى هذه المسألة، عند المتخصصين، «المسألة المشتركة»، وهي إذا استغرقت الفروض كل التركة، وكان هناك إخوة أشقاء، لم يتبق لهم شيء يرثونه بالتعصيب باعتبارهم من ذوي العصبات الذين لا يرثون بالفرض، فإنهم في هذه الحالة يدخلون مع الإخوة لأم في الثلث، باعتبارهم أولاد أم واحدة، وتسمى أيضا «المسألة الحجرية» و«المسألة الحمارية» و«المسألة اليمية»، لأن الأولاد قالوا لسيدنا عمر: هب أن أبانا كان حجرا، أليست الأم تجمعنا؟.

لا أعرف صدقا، كيف يمكن تقبل أن الحياة بعمومها، والدينية كمثال، لا يتقبل أهلها بأن هناك أمورا تغير وتتغير، ومثال سيدنا أمير المؤمنين في كلا الاجتهادين بما ظهر له أنه الحق، من أجود الأمثلة على تأثير المتغيرات في الأحكام والاجتهادات، فقضاؤه وحكمه الأول لم يمنعه من الرجوع إلى الحكم الثاني، ولم ينقض حكمه الأول، بالحكم الثاني، وهو ما جرى عليه أئمة الإسلام من بعده، وما ينبغي أن يسار عليه، فإن الاجتهاد قد يتغير، والحق أولى بالإيثار.

ثوابت الدين معروفة، ومنها الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء خيره وشره، والصلاة والزكاة والصيام وحج بيت الله الحرام، وفي داخلها فرعيات كثيرة، ومن الثوابت أيضا حرمة الربا، والخمر، والميسر، والزنى، واللواط، والسحاق، والظلم، والبغي، وأكل أموال اليتامى ظلما، والرشوة والغش، والتدليس. أما طرق تعمير الكون وإدارة المجتمعات فهذه من المتغيرات، ومتروكة لأهل الاختصاص، ومعيب جدا تحويل الحرام القطعي إلى حلال، كذا تحويل الحلال القطعي إلى حرام، ومعيب كذلك إلغاء النص بالكلية، وكذلك إلغاء دور العقل.