تابعتم -ولا شك- مقطع السمكة التي طالها أذى الإنسان، وحُشِرت داخل كيس بلاستيكي شفاف في قاع البحر؟ تلك السمكة سعيدة الحظ، والتي شملتها رعاية الله وأرسلت غواصا لينقذها من الكرب الذي كانت فيه، فسبحان من يشمل بلطفه وعنايته كل شيء حي.

يبدو هذا المشهد مدخلا مناسبا لأخبركم عن بحث علمي تديره الآن إحدى الجامعات البريطانية المرموقة، إذ طلبت هذه الجامعة من طلابها الدوليين أن يحضروا ما لديهم من أكياس بلاستيكية غير محلية الصنع، أي الأكياس التي أحضروها من بلدانهم. والهدف من هذا البحث كما أعلنه القسم هو تحليل الأكياس الموجودة في البيئة المائية لبريطانيا، وربطها ببلد المنشأ لمعرفة المصدر الأكبر لتلويث المياه المحلية بالأكياس البلاستيكية.

أقف احتراما لهذه الفكرة البحثية، لكن أمانةً -ومن معرفة جيدة بالبريطانيين- أكاد أجزم أنهم لن يقفوا هنا، بل سيسعون إلى الاستفادة اقتصاديا من الدول المسببة للتلوث، ربما بتكليف هذه الدول بدفع كلفة تنظيف المياه البريطانية الملوثة، بالتناسب مع نسبة التلوث الذي تسببوا فيه، أو قد يربطون التلوث بضعف الإنتاج السمكي، وبالتالي يتم رفع سعر السمك والمنتجات البحرية على المستهلكين أو رفع الضرائب، أو بهما معا، ربما يكون هذا البحث بداية لدعاوى قضائية على دول تستخدم مكونات غير مرخصة في صناعة أكياسها البلاستيكية!.

المؤكد أن الجامعة وإدارة حماية البيئة في المنطقة لن تستثمرا طاقتهما البشرية والمادية لمشروع بحثي بلا مردود اقتصادي، سواء جاء هذا المردود بشكل منتج معرفي أو منتج صناعي.

الفكرة السابقة، وأعني الفكرة البحثية ذات المردود الاقتصادي، هي ما نريده وما يجب أن نسعى إليه في أبحاثنا المحلية، والتي ما زالت في غالبيتها تراوح مكانها وتموت في الأدراج.

على جامعاتنا وأقسامنا العلمية أن تخرج سريعا من نفق الأبحاث التي تكتب لتزيين الرفوف والسير الذاتية، وذلك خلال مزيد من الأبحاث التطبيقية في كل مناحي الحياة، رفعا لجودتها وإسهاما منّا في الوصول إلى أهداف الرؤية كلٌ فيما يتقنه.

هذه الفكرة تحتاج فعلا إلى مرجعية على مستوى عالٍ، ومن هذا المنطلق أقترحُ هيئةً عليا للبحث العلمي للجامعات، بحيث تركز كل جامعة جهودها البحثية فيما تتقنه وتتفوق فيه، ويتناسب مع بيئتها المحلية، ويهمّ شركاءها المحليين من إدارات وسكان المنطقة، لتتكامل الجهود العلمية، وتتوافر مصادر المعلومات وكذلك مصادر الدعم المادي الحرّ بعيدا عن ميزانيات الجامعات، بهذا تتضافر الجهود بدلا من تكرار الأفكار والسقوط في بئر الهدر المادي والمعنوي.

كما أقترح أن ترتبط هذه الهيئة بسمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، عبر مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية السعودي. فالأبحاث العلمية ذات المردود الاقتصادي تخدم التنمية بشكل مباشر، على عدة مستويات آنية ومستقبلية. كما أن ارتباط الهيئة المقترحة بسموه سيعلي سقف التطلعات عند الجامعات، ويعلي كذلك سقف المحاسبة.

يا ترى هل فكّر أحد المشاهدين بالتعرف على مصدر الكيس البلاستيكي الذي احتجز السمكة؟ أتمنى أن يكون أحدهم قد فعل، لأن الغالبية الآن متفقون على أهمية قيادة البحث العلمي لمحرك التطوير والتغيير عن طريق الأفكار الرائدة والخلاقة والجامحة أحيانا، والتي تستهدف الاقتصاد ضمن النتائج والتوصيات، تلك الأبحاث الرصينة التي لا تدار من خلف شاشة الحاسب الآلي فقط، بل تصنع الأسئلة البحثية من موقف يومي عابر، كسمكة غارقة في الماء، أو كيس بلاستيكي غريب ملقى بإهمال على حافة The River Soar.