بعد نقاش عام ثري، مع صديق مميز بفهمه، وبعد نظره، وصلنا لقناعة مشتركة في ضرورة فهم الناس لواقعهم الفهم الدقيق، وعدم الإصرار على رأي واحد.. صديقي استدل بمقطع شهير لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، المفتي العام السابق للمملكة، حول التقيد في الفتوى بمذهب معين، وبعد بحث يسير، وجدت المقطع، وأرسلته لصديقي، فأجابني بأنه هو المقصود، ولما فيه من رأي، ينقص بعض طلاب العلم استيعابه، أكتبه هنا وبالنص، من أجل الاستزادة من المعرفة، حول هذا الموضوع الفقهي الحيوي المهم.

المقطع كان عبارة عن سؤال وجه للشيخ العلامة، ونصه: «يعتقد البعض أنكم تقفون عند مذهب معين، هل تتفضلون بقول كلمة في هذا المقام؟»، وكانت الإجابة، وبالنص أيضا: «الفتاوى الصادرة مني، لا أقف فيها، ولا أعتمد فيها على مذهب أحد، لا (أحمد) و(لا غيره)، إنما عمدتنا في ذلك، تحري ما قاله الله، ورسوله، صلى الله عليه وسلم، سواء كان في مذهب (أحمد)، أو مذهب (الشافعي)، أو (مالك)، أو (أبي حنيفة) أو (الظاهرية) أو (بعض السلف المتقدمين)، المقصود تحري ما يدل عليه الكتاب والسنة، هذا هو الذي نعتمد عليه، لا نعتمد على مذهب (أحمد)، ولا (على غيره)، إنما نعتمد على ما قاله الله، ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وما دل عليه الكتاب والسنة، في الأحكام..».

معرفتي بعلم الشيخ، وانفتاحه على جميع الآراء المتعلقة بالفقه الشرعي، دعتني للبحث عن آراء أخرى له في ذات المسألة، ووجدتها كلها تصب في نفس الروح العلمية والاستيعابية للمذاهب الفقهية، ومما يسند كلامي قوله، جزاه الله خيرا على ما قدمه من دعوة وإرشاد: «المذاهب الأربعة ليست لازمة للناس، والقول إنه يلزم كل طالب علم أو كل مسلم أن يعتنق واحدا منها قول فاسد.. الواجب اتباع النبي، صلى الله عليه وسلم، والأخذ بما شرع الله على يده، عليه الصلاة والسلام، سواء وافق الأئمة الأربعة، أو خالفهم.. الإنسان لا يتعين عليه أن يلزم مذهبا معينا، فإذا أخذ بقول (أحمد) في مسألة وانتسب إليه، ثم رأى أن ينتقل إلى مذهب (الشافعي) في هذه المسألة نفسها، أو في مسائل أخرى قام الدليل عليها فلا بأس.. فإذا كان في مسألة من المسائل على مذهب (أحمد)، ثم رأى أن الدليل مع (مالك)، مع (الشافعي)، مع (أبي حنيفة)، مع (الظاهرية)، مع (غيرهم من السلف)، أخذ بذلك..»، وفي تنبيه مهم آخر، يلفت الشيخ من كان في زمنه ومن بعدهم، خصوصا محبي التنقل بين المذاهب، حسب أمزجتهم، فيقول رحمه الله: «كون الإنسان يتنقل بين مذهب ومذهب لهواه، إذا ناسبه المذهب هذا في مسألة، ذهب إليه، والآخر في مسألة، ذهب إليه، اتباعاً لهواه وشهوته، هذا لا يجوز..».

أختم مقالي بمسألة دقيقة ذكرها شيخنا الجليل، الذي يقر له كل مهتم بالعلم الشرعي، بالعلم والصلاح، حتى وإن اختلفوا معه في بعض آرائه، قال رحمه الله رحمة واسعة: «.. لا بأس أن يقول الإنسان أنا على المذهب (الشافعي) أو (الحنبلي) أو (المالكي).. لكن لا يجوز له أن يتعصب ويقول إن الحق معهم لا مع غيرهم.. ولا يجوز أن يتعصب الإنسان لمذهبه في الحق والباطل.. لا يجوز له أبدا أن يتعصب ويقول إنه على الحق مطلقا، أو ينكر على من خالف..».