مع تراكم خبرة نظام الملالي وبعد انتهاء حقبة الخميني، وجدت إيران نفسها أمام خبرة جديدة هي العمل من خلال اللوبيات في الولايات المتحدة، لتمرير مشروعها وتجنب الاصطدام، ووجدت في ذلك أداة ناعمة داعمة لمشروعها الطائفي العدواني، وفعلا نجح الملالي بتأسيس لوبي خاص بهم في أميركا يعدّ الأكبر بعد اللوبي الصهيوني!.

بداية فإن مفهوم اللوبي يتلخص بكونه مجموعة تربطها فكرة أو مصلحة معينة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو إعلامية، تسعى إلى التأثير في السياسة أو الرأي العام في اتجاه معين، بتقديم الدعم المادي والمعنوي والفكري للجهة التي تمثل مصالح اللوبي، سواء الاقتصادية أو الفكرية أو الاجتماعية.

وللّوبيات دور كبير في رسم السياسات، فأكثر من 40% من أعضاء الكونجرس يعملون في شركات اللوبي بعد التقاعد مما يتيح لها خبرات كبيرة، ولتضخم دور اللوبيات توصلت إحدى الدراسات إلى أن اللوبيات أصبحت فعليا هي الحاكمة في أميركا، وأنها تشكل حالة خاصة من حكم الأقلية.

ويمكن اختصار حكاية تأسيس هذا اللوبي الإيراني في أميركا عبر المحطات الآتية:

- بسبب تورط الملالي في الحرب مع العراق وتزايد حاجتهم لصفقات نفط وسلاح، لجؤوا للبحث عن شخصيات في الجالية الإيرانية بأميركا لتكون جسرا لعقد صفقات مع الشركات الأميركية، وكانت البداية مع نجل محمد باقر نمازي، محافظ الأحواز السابق في عهد الشاه، حيث افتتح بطهران في مطلع التسعينيات شركة استشارية وفّرت للنظام صلات مع شركات النفط والسلاح والاتصالات، ثم انخرطت عائلة نمازي لاحقا في دعم اللوبي الإيراني في أميركا، خاصة «المجلس القومي الإيراني في أميركا»، المعروف بـ«ناياك» والذي أسسه تريتا بارسي، ولا تزال لعائلة نمازي صلات قوية بالنظام الإيراني.

- منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي بدأ نظام الملالي تفعيل هذه الأداة الناعمة في اختراق النظام الأميركي والأوربي، والذي يسمح تكوينه السياسي بذلك، وكان قصب السبق في ذلك لصادق خرازي، إذ استفاد من تواجده في أميركا لعدة سنوات (1989 - 1996) ليمهد لإنشاء لوبي يخدم الملالي باستغلال الجالية الإيرانية الضخمة والمتنوعة الأطياف هناك، والمؤسسات الإيرانية القديمة من زمن الشاه، فسعى إلى تأسيس صلات وروابط بين مؤسسات مدنية وسياسية وتجارية تتقاطع مصالحها مع النظام الإيراني، ويبدو بسبب هذا الدور التمهيدي لتأسيس اللوبي الإيراني عُيّن صادق خرازي في منصب نائب وزير الخارجية الإيراني (1997 – 2003).

وواصل مهمة صادق خرازي بعده جواد ظريف، الذي تولى رئاسة البعثة الإيرانية في الأمم المتحدة (2002 - 2007)، ولذلك حين تولى ظريف وزارة الخارجية في 2013 صرح للتلفزيون الإيراني: «لدينا جالية كبيرة ومتعلمة في أميركا. يجب اعتبار هؤلاء بمثابة ثروة لإيران، حيث إنهم يستطيعون الدفاع عن مصالح بلادهم، بلاد أمهاتهم وآبائهم. يتوجب عليهم ألا يسمحوا بفرض النظرة العدائية ضد إيران في الولايات المتحدة والمجتمع الدولي».

ولقد تمت إدارة طاقات الجالية بطريقة ذكية لتتغلغل في مفاصل النفوذ، فتم توجيه الشابات لاختراق مجالات العلاقات والمعلومات والتخطيط، أما الشباب فوجّهوا لمجالات التكنولوجيا والسياسة، وتم حث رجال الأعمال على اختراق شركات الأسلحة والطاقة والأدوية والاتصالات والمواصلات، كما تم ترغيب أبناء الجالية على الزواج والتصاهر مع العائلات الأميركية الغنية وذات النفوذ لمزيد من امتلاك القوة الناعمة!

وكعادة الجاليات فإن الجيل الثاني منها هو من انخرط في الحياة السياسية، حيث تم تأسيس «المجلس الإيراني الأميركي» عام 1997 برئاسة هوشك أمير أحمدي، ولكنه لم يستمر كثيرا، ليظهر في عام 2002 «المجلس القومي الإيراني في أميركا» والمعروف بـ«ناياك» بقيادة تريتا بارسي.

- كان الشاه قد أسس في نيويورك سنة 1973 مؤسسة «بيناد بهلوي» كمؤسسة خيرية، وبعد سقوط الشاه نقلت مسؤوليتها لـ«مؤسسة المضطهدين والمعاقين» الإيرانية الخيرية التابعة مباشرة للمرشد، وبدّل اسمها ليصبح «بيناد مستضعفان»، ثم إلى «بيناد علوي»، وقد سيطر على المؤسسة نظام الملالي بشكل غير معلن من خلال البعثة الدبلوماسية في الأمم المتحدة، وتمتلك مؤسسة «علوي» ناطحة سحاب في نيويورك تعود عليها بأموال ضخمة تمول بها أكثر من 30 مؤسسة تعليمية في أميركا، وتقوم بتجميل صورة نظام الملالي، كما تقوم «علوي» بتمويل عدد من الدراسات والأبحاث التي تدافع عن مصالح نظام الملالي والتي يقوم بها باحثون أميركيون، بعضهم من أصل إيراني. وقد اتهمت «علوي» بإرسال أموال لنظام الملالي لتمويل البرنامج النووي وشبكات تجسس في أميركا وأوروبا، وسُجن مديرها بعد إتلافه وثائق مالية تدين المؤسسة، وتمت مصادرة كثير من أموالها وما يتبع لها من هيئات.

- هذه الركائز الثلاث: شخصيات إيرانية نافذة في أميركا، وجالية كبيرة، ومؤسسة مالية داعمة، كانت البنية التحتية لتأسيس أهم واجهة للّوبي الإيراني تحت عنوان «المجلس القومي الإيراني في أميركا»، والمعروف اختصارا بـ«ناياك» على يد تريتا بارسي عام 2002.

وبارسي هو فارسي زرادشتي نشأ في السويد، وتعرف على عائلة نمازي مبكرا، وتعاون معها عام 1997 بتأسيس مؤسسة «إيرانيون للتعاون الدولي»، ثم شارك في مؤتمر عن إيران نظمه الملالي في قبرص سنة 1999 وطرح فيه فكرة لوبي إيراني في أميركا، ويُعتقد أن المخابرات الإيرانية كان لها دور في ترتيب اللقاء والتعاون بين بارسي وعائلة نمازي.

وفعلا في عام 2000، قام أمير أحمدي مدير «المجلس الإيراني الأميركي» باستقدام بارسي لأميركا، حيث عمل مساعدا لعضو الكونجرس «بوب ني» الذي عمل في جامعة شيراز الإيرانية زمن الشاه، ففتح له باب التغلغل في الكونجرس على مصراعيه، وفي 2002 أسس بارسي «ناياك» وكان مساعده فيها سياماك نمازي، وقد كُشف لاحقا عن دور مهم لمحمد باقر نمازي في تأسيس «ناياك» من مكتبه بطهران عبر مراسلات بينهما، وأصبح لدى «ناياك» 50 فرعا في أميركا، وأقامت أنشطة لها في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وتنامت ميزانيتها من 60 ألف دولار لتبلغ مليوني دولار، وتأثير «ناياك» على السلطة التنفيذية أكبر من تأثيره في الكونجرس، لقلة عدد مناصري إيران في الكونجرس، لكن قد يتغير هذا الحال لاحقا.

وقد نجح «ناياك» في تحقيق كثير من أهدافه، ومن أهمها: حشد صفوف الجالية الإيرانية خلف موقف واحد رافض للحرب على إيران برغم تباين موقفهم من نظام الملالي، ولكن بعد رؤيتهم لتدمير العراق اتفق الجميع على الحفاظ على إيران وعدم تدميرها، ومحاربة نظام الملالي فقط، وأن أفضل طريقة لذلك هي الحوار والتفاوض ودعم المعتدلين في النظام، وهو ما أسهم في تحقيق الإنجاز الثاني وهو الاتفاق النووي، وتلميع صورة نظام الملالي، وإظهار أنه معتدل وصديق للغرب بخلاف السنة والدول العربية عموما، والسلفية والسعودية خصوصا، ووصم الأخيرين بأنهم إرهابيون ومتطرفون، كما أنه نجح في بناء تحالفات وشراكات مع لوبيات متعددة كلوبي النفط ولوبي السلاح ولوبيات صغيرة متنوعة، كاللوبي السوري واللبناني والعراقي، والمعارضة الشيعية السعودية والبحرينية.

وقام عمل «ناياك» على محورين، المحور السياسي والإعلامي، عبر دعمها كوادر الجالية لاختراق المجال السياسي والإعلامي واستمالة كثير من الباحثين والإعلاميين عبر المؤتمرات والندوات وورش العمل، كما أن النظام الإيراني تمكن من استغلال المنح الدراسية لتسريب عدد من كوادره المدربة لاختراق مراكز البحوث والإعلام والكونجرس، منهم ثلاثة أشخاص أصبحوا لاحقا نوابا لوزراء الخارجية الإيرانيين.

والمحور الثاني عبر الصفقات التجارية، حيث واصلت «ناياك» تنفيذ مهمة «رابطة التجارة الإيرانية» (1997-2003) لتمرير صفقات تجارية بين إيران وأميركا، خاصة في قطاعات النفط والسلاح والتكنولوجيا.

ومن أهم رموز اللوبي الإيراني: السفير السابق شاس فريمان، الذي كاد يعين في مجلس الاستخبارات القومي، وهو المسؤول عن تقييم مراحل تطور البرنامج النووي الإيراني! ورئيس جامعة جنوب كاليفورنيا حامد شرفاني، وهو إيراني مسيحي، ومستشارة الأمن القومي الأميركي العليا «سحر نوروزيان»، وفريال غواشيري، الكاتبة الخاصة للرئيس الأميركي أوباما، وكانت مساعدة لأوباما منذ كان عضوا في الكونجرس، وفاليري جارت مستشارة أوباما وكاتمة أسراره، وماندانا فاطمي، وهي من كبار المحللين في البيت الأبيض، وبانتانيا فاعد التي تعمل لدى ميشيل أوباما، وهدية غفاريان، كبيرة منسقي زهور البيت الأبيض، وفالي نصر من مركز جون هوبكنز، وحسين موسويان من مركز برنستون، وكريم سجابور من مركز كارنيجي، وراي تقيه، من مجلس العلاقات الخارجية، وزوجته سوزان مالوني، الباحثة بمؤسسة بروكنجز، وكريستيان أمان بور، مذيعة محطة سي إن إن، وسالار كامانجار، نائب رئيس جوجل السابق، وغاري سيك، من جامعة كولومبيا، وهالة أصفندياري، مديرة برنامج الشرق الأوسط في مركز وودرو ويلسون، وباربرا سلافين، الباحثة في مجلس الأطلسي.

واللوبي الإيراني الموالي للملالي يمتلك واجهة أخرى بخلاف «ناياك» هي «رابطة العلاقات العامة للأميركيين من أصول إيرانية» (بايا)، و«بايا» أقل نشاطا من «ناياك» حاليا، ولكن قد يكون لها دور قوي مستقبلا، خاصة أن «ناياك» يواجه أزمة بعد إدانة بارسي بصلات مع رموز النظام الإيراني عقب رفع قضية عليه من معارضين إيرانيين، ولذلك استقال من رئاسته في منتصف 2018، واستلم جمال عبادي مكانه، والذي أعلن عن أنه بصدد تأسيس لوبي جديد يركز على تمويل حملات مرشحي الكونجرس وترتيب حملات منتظمة لتأسيس علاقات إستراتيجية جديدة بين إيران وأميركا.

ختاما، نجح الملالي في استغلال بنية النظام الأميركي القابلة للّوبيات للمحافظة على بقاء نظامهم ومصالحهم، كما نجحوا في استغلال العواطف القومية للجالية الإيرانية، حتى الفئات المعارضة للملالي من أجل إبعاد شبح الحرب عن نظام الملالي، وطوّعوا تقاطع مصالحهم مع لوبيات النفط والسلاح والتجارة لتحقيق نقاط لصالحهم.