لعلنا في هذا المقال نشير إلى كتابي الذي أعكف على الانتهاء منه، وقد بدأت الكتابة فيه منذ سنتين تقريبا، ويدور محتواه عن التقدم كمفهوم وممارسة في بعض وطننا العربي، والذي نتسابق إليه بشراسة وتنافس محموم وبأدوات مختلفة قد تكون شرعية أو غير شرعية، ولكن للأسف الشديد بالاتجاه الخاطئ، باعتقاد منا أنه الاتجاه الصحيح، وباستخدام بوصلة معكوسة التوجه كان لدى بعض العرب سبق اختراعها وتطبيقها بجدارة وتفرد لأسباب قد تكون مفهومة لدى البعض وتغيب عن كثير.

وبما أن الأحداث تتسارع والمعلومات تترى، وقد يكون هذا أحد الأسباب التي تجعلني أكون في وقفة تأمل ولبس لنضارة المحلل حول ما يجري لمعرفة هذه الأسباب، ولأنني من بين الأشخاص الذين يؤمنون بالنتائج الأخيرة لأي عمل، فهي أفضل وسيلة لمعرفة الطرق الصحيحة، فتقدم بعض العرب نحو التخلف هو الشعار الذي لا ندرك أننا نمضي فيه، وهذا هو واقع بعض منطقتنا العربية، فليس الحديث هنا عن بعض التقديرات الدولية وإحصاءات وأرقام تقرير التنمية الدولي، فلم يعد التخلف مقصورا على الأمية أو الفقر، فهذه نتائج للتخلف، وبالتالي أصبح هذا المفهوم أوسع وأشمل، فتفسيرنا للتخلف قد يكون من منظور مختلف قليلا عن بعض أطروحات وأفكار آخرين، فمنهم من أركن التخلف الذي يعيشه العرب لأسباب في اعتقادي أنها مبتورة المعنى، ولا تصل إلى حد القانون القطعي لواقعنا، وهذا ما أريد أن أناقشه، خاصة أن الشواهد التاريخية تدل على عكس ذلك، فالمستشرق مكسيم رودنسون المؤرخ الماركسي الفرنسي، عالم الاجتماع والدراسات الشرقية، يرى أن الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لا تكفي وحدها لتفسير تأخّر العرب الحضاري، فقط ربطها بعنصر آخر وهو أن المجتمعات العربية لم تشهد ظهور أصوات قوية ضد التراث المتراكم كما يزعم، كما حصل في أوروبا مع فولتير وروسو وديدرو، فلا تزال المجتمعات الإسلامية تعيش كما كانت عليه أوروبا في القرون الوسطى، لذلك فأوّل شيء يجب فعله هو الخروج من عقلية القرون الوسطى الغيبية والمذهبية الضيقة، وهذا الأمر مخالف للسرد التاريخي والحاضر المعاش، وباعتقادي هو سبب التخلف الذي تعيشه بعض منطقتنا العربية، وهو البعد عن مفهوم الإسلام الحق المعتدل، وعن مفهوم الحضارة التي تغير الشعوب، فالتاريخ أثبت أن العرب غيروا إسبانيا شكل الأندلس في سنوات راسخة وشاهده من حيث المادة والعلم، وجعلوها في منزلة دونها جميع الممالك، قال لبون «لكن هذا التبدل لم يتناول الماديات والعقليات، بل تعداها إلى الأخلاقيات، فقد علموا وحاولوا أن يعلموا الشعوب الغربية وأصحاب الديانات الأخرى أثمن الصفات الإنسانية، والمتمثلة في التسامح، فكان من لطفهم مع بلاد إسبانيا تلك الأرض التي فتحوها أن يعقد أساقفتهم مجامعهم الدينية في إشبيلية سنة 782م وفي قرطبة سنة 852م، وهذا من الأمثلة على حسن مأتاهم، فلم يتخلوا عن الدين وعن مفهوم الإسلام الحق، بل كان محفزا لهم، وكانت إسبانيا العربية البلد الوحيد في أوروبا الذي كانت فيه حقوق اليهود مصونة حتى كثر فيها سوادهم»، وقال سيديليو ولبون وغيرهما «كان العرب في إسبانيا من حيث الأخلاق والعلم والصناعة أرقى من النصارى»، أما الجانب المعاصر فإن دول الخليج العربي وتطورها واستثمارها في العقل البشري والإنسان والتطور التكنولوجي والمعماري والانفتاح على الآخر والتسامح، فهو أساس تقدمها على الرغم من تمسكها بثوابتها ودينها وعقيدتها، فدستورها القرآن، وهذا لم يمنع من تقدمها أو انفتاحها المصون بثوابت نحو التقدم، بعكس بعض الدول التي جعلت مسألة التقدم لديها مربوطة بالتصادم مع الدين، فهم يرون أن الحداثة في أوروبا اصطدمت بالمسيحية، ولا بد أن يحصل ذلك لدى الشعوب العربية، لكن النتيجة كما أسلفنا تختلف، سواء من حيث التاريخ أو الحضارة الذي تمثله الشعوب، فتقدمهم نحو التخلف الذي يحصدون زرعه.