أدى الانقلاب الفاشل الذي وقع في 15 يوليو 2016 إلى تغيير السياسة التركية بشكل لا رجعة فيه. وعلى الرغم من إحباط محاولة الانقلاب، إلا أن المسار الذي اختاره إردوغان بعد الانقلاب - باستخدامه سلطات حالة الطوارئ التي مُنحت له لملاحقة مدبّري الانقلاب على وجه التحديد، ولكنه شرع بدلاً من ذلك في شن حملة أوسع نطاقاً بكثير ضد جميع المعارضين، وعدد منهم لم تكن له أي علاقة بالانقلاب بأي شكل من الأشكال - يسلّط الضوء على حقيقة مؤسفة بشأن البلاد: تركيا تتخبط في أزمة كبيرة.

فالبلاد منقسمة بين مؤيدين ومعارضين لإردوغان الذي فاز في دورات انتخابية متتالية في تركيا منذ عام 2002 على أساس برنامج شعبوي يميني. وقد قام بتشويه صورة الناخبين الذين لن يصوتوا له على الأرجح وقمعهم في إستراتيجية فاقمت إلى حدّ كبير الاستقطاب في تركيا، التي أصبحت الآن منقسمة بشكل كبير بين معسكر موالٍ لإردوغان وآخر مناهض له: ويتمثل الأول بائتلاف محافظ يميني من القوميين الأتراك يرى أن البلاد هي جنة، والثاني وهو مجموعة فضفاضة من اليساريين والعلمانيين والليبراليين والأكراد يعتقدون أنهم يعيشون في الجحيم.

باختصار، تعيش تركيا في أزمة. هل يمكنها أن تنفجر في ظل هذه الضغوط؟ لا شك في ذلك، وإذا ما انفجرت، سيكون الأمر بمثابة كارثة حتماً، لكن هل تستطيع تركيا الابتعاد عن مثل هذا المستقبل المؤسف؟ من المستحيل إعطاء أي إجابة على هذا السؤال دون فهم كامل لارتقاء إردوغان السلطة وتطلعاته السياسية. فالرئيس التركي هو أحد أكثر رجال الدولة نفوذاً في عصرنا. وقد فاز هو والحزب الذي يتزعمه - في البداية بحكم القانون، وحالياً بحكم الأمر الواقع - بخمسة انتخابات برلمانية، وثلاث دورات من الانتخابات المحلية على الصعيد الوطني، واثنتان من الانتخابات الرئاسية بالاقتراع الشعبي، واستفتاءان بين عامي 2002 وأوائل 2018.

ولكن ماذا سيكون الإرث الدائم لإردوغان؟ فحيث يرزح سجله تحت جميع الانتقادات، إلّا أنه يتضمن بعض العناصر الإيجابية، وعلى وجه التحديد، نجاحه في تحقيق النمو الاقتصادي وتحسين مستويات المعيشة. وهذا هو الجانب المشرق لإردوغان. فعندما جاء «حزب العدالة والتنمية» الذي ينتمي إليه إردوغان إلى السلطة في عام 2002، كانت تركيا دولة معظمها من الفقراء. إلّا أنها الآن بلد معظم مواطنيه من ذوي الدخل المتوسط ??. فقد تحسنت الحياة في جميع أنحاء البلاد، ويتمتع المواطنون ببنية تحتية وخدمات أفضل بشكل عام. في عام 2002 كان معدل وفيات الأمهات في تركيا مشابهاً إلى حد ما لنظيره في سورية ما قبل الحرب، والآن هو قريب من المعدل في إسبانيا. بعبارة أخرى، اعتاد الأتراك العيش كالسوريين، بينما يعيشون الآن كالإسبان. وهذا هو السبب في فوز إردوغان بالانتخابات. وفي المستقبل، سيكون الاقتصاد نقطة ضعف إردوغان.

وعلى أي حال، فباستثناء الانهيار الاقتصادي، سيدخل إردوغان التاريخ باعتباره أحد قادة تركيا الأكثر شهرةً وكفاءةً ونفوذاً، ليصطف على الأرجح إلى جانب أتاتورك الذي آمن بأن النظام السياسي العلماني المتأثر بالثقافة الغربية الذي بناه في القرن العشرين لن ينهار أبداً.

وبعد أن حَكَمَ تركيا لمدة 16 عاماً منذ عام 2002، جمع إردوغان ما يكفي من النفوذ لتقويض إرث أتاتورك، وجعل «الكماليين» الأصليين - لو كانوا على قيد الحياة - يشككون في ثقتهم التامة بنظامهم. لقد قام بتفكيك علمانية أتاتورك خلال فترة تزيد قليلاً على عقد من الزمن، ونجح بذلك دون رحمة كبيرة لخصومه. وجعل شكلاً محافظاً ومتصلّباً من الإسلام يطغى على الأنظمة السياسية والتعليمية في البلاد وأبعد تركيا عن أوروبا والغرب. وللمفارقة إن هذا هو جانب «أتاتورك» من أردوغان. وبالطبع، لا يشارك أردوغان قيم أتاتورك بل فقط أساليبه. وكما رسم أتاتورك معالم تركيا على صورته الخاصة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، يقوم أردوغان برسم دولة جديدة، ولكن تلك التي ترى نفسها إسلامية بشكل عميق في الأمور السياسية والسياسة الخارجية - لجعلها قوة عظمى من جديد.

وأردوغان هو بمثابة «أتاتورك» معادٍ لأتاتورك. حيث قام بتفكيك نظام أتاتورك مستخدماً الأدوات ذاتها التي وفّرتها له النخبة المؤسسة في البلاد: مؤسسات الدولة وهندسة اجتماعية من المستويات العليا إلى المستويات الدنيا، وكلاهما من السمات المميزة لإصلاحات أتاتورك. وقد استخدم أردوغان وسائل أتاتورك وأساليبه لاستبدال حتى أتاتورك نفسه. والنتيجة النهائية هي قيام تركيا حالياً بالتمييز ضد المواطنين.

ويتمتع أردوغان بتفويض ديمقراطي للحكم. وما هو أكثر من ذلك، أن تركيا تنقسم مناصفة تقريباً بين معسكرات مؤيدة لأردوغان وأخرى معادية له. وهو يريد تغيير تركيا على طريقته، وهنا تكمن أزمة تركيا الحديثة، وهي أن نصف البلاد تحتضن النسخة السياسية التي يتبعها أردوغان، لكن النصف الآخر يعارضها بشدة. وقد أدى ذلك إلى ولادة الجانب غير الليبرالي الأظلم لأردوغان: فمن أجل أن يمضي قدماً في برنامجه للتغيير الثوري ضد مجتمع منقسم، قام بتخريب الديمقراطية في البلاد. فمن خلال استغلال شعبيته، تخلّى عن الضوابط والتوازنات الديمقراطية، بما فيها وسائل الإعلام والمحاكم. وبدلاً من تقديمه المزيد من الحريات للجميع، قام بقمع خصومه واعتقال المعارضين، وتوفير الحريات غير المتكافئة لقاعدته المحافظة والإسلامية.

لقد أنجز ذلك من خلال لعبه دور «المستضعف المتسلط». فمن خلال الاعتماد على روايته القائمة على الاستشهاد السياسي في ظل النظام العلماني في التسعينيات، يصوّر أردوغان نفسه الآن كضحية يضطر على مضض إلى قمع أولئك المتآمرين لتقويض سلطته. فقد أرهب وسائل الإعلام ومجتمع الأعمال وسَجَن المنشقين والعلماء والصحفيين. وفي ظل حكمه يقوم رجال الشرطة بانتظام بقمع مسيرات المعارضة السلمية. ووفقاً لذلك، فعلى الرغم من استمرار حرية الانتخابات التركية، إلّا أنها غير عادلة على نحو متزايد.




 سونر جاغابتاي

* مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن.

* مؤلف كتاب «السلطان الجديد: أردوغان وأزمة تركيا الحديثة».

* معهد واشنطن.