يرغب إردوغان في رسم معالم كامل تركيا على صورته. فقد أدى إضفاء طابعه الشخصي على السلطة وهيمنته على المؤسسات السياسية والمدنية إلى جعل تركيا دولة هشة من الناحية السياسية، وفي حالة أزمة دائمة. وقد حقق نجاحاً هائلاً في الانتخابات من خلال تشويه صور مجموعات سكانية مختلفة لم تكن لتصوّت له ومهاجمتها سياسياً. وإذا ما جمعناها معاً، تمثّل هذه الفئات ما يقرب من نصف الناخبين الأتراك، ولا يزال هناك الكثير من الأعداء الذين ينتظرون سقوطه من السلطة. ويدرك إردوغان أن أفعاله لم تترك له أي طريقة لائقة للخروج من المشهد السياسي. والأكثر من ذلك، أنه عندما يترك إردوغان منصبه - وسوف يفعل ذلك يوماً ما - لن يتبقى سوى عدد قليل من المؤسسات الدائمة للحفاظ على وحدة البلاد.

ولن تستطيع تركيا الخروج من أزمتها إلّا من خلال سن دستور جديد يوفر حريات واسعة لجميع المواطنين. وفي المرحلة القادمة، من أجل التأكد من احترام حقوق كل من تركيا التقنية والعلمانية، يجب أن يضمن الدستور كلا شكلي الحرية الدينية.

على إردوغان الإقرار بأن وقت الثورات بأسلوب أتاتورك - التي تتضمن الهندسة الاجتماعية في إطار تنازلي في تركيا (أو، في هذه الحالة، في أي دولة أخرى) - قد انتهى. وتجدر الإشارة إلى أنه في عشرينيات القرن الماضي كان معظم سكان تركيا - التي رسم أتاتورك معالمها على صورته - من الفلاحين الذين كانت نسبتهم حوالي 75%. وبالكاد كان 11% من الأتراك متعلمين، كما أن العديد من أولئك الأشخاص الأكثر تثقيفاً كانوا يدعمون أجندة أتاتورك. أما تركيا المعاصرة، التي يأمل إردوغان رسم معالمها على صورته، فإن 80% من سكانها هم من الحضريين و97% من شعبها متعلّم.

 لذا من غير المحتمل، وربما من المستحيل، أن يتمكن إردوغان من فرض رؤيته المتمثلة بإسلام محافظ متشدد على المجتمع التركي بأكمله، وهو مزيج من المجموعات الاجتماعية والسياسية والعرقية والدينية التي يعارض كثير منها أجندة إردوغان. وعلى الرغم من جهوده الرامية إلى خلق طبقة من الرأسماليين الإسلاميين المحسوبين، إلّا أن الجزء الأكبر من أصحاب الثروة في البلاد لا يزال منحازاً إلى «جمعية الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك»، التي تُعتبر نادي «فورتشن 500» التركي، المتمسكة بالقيم العلمانية والديمقراطية والليبرالية الموالية للغرب. إن تركيا بكل بساطة دولة متنوعة جداً ديموغرافياً، وكبيرة جداً اقتصادياً، ومعقدة للغاية سياسياً من أن يتمكن شخص واحد من رسم معالمها على صورته الخاصة على خلفية نظام ديمقراطي وقوى سياسية متنافسة. وطالما أنّ تركيا دولةٌ ديمقراطية، لن يتمكّن إردوغان من الاستمرار في الحكم كما يريد.

الرئيس التركي يرغب في جعل بلاده قوة عظمى. لقد جعل تركيا دولة مؤلفة من الطبقة الوسطى، ولديها الآن فرصة التحوّل إلى اقتصاد متقدّم إذا قام ببناء مجتمع معلومات يقوم على اعتماد القيمة المضافة، بما فيها البرمجيات وتكنولوجيا المعلومات. بعبارة أخرى، بإمكان تركيا التي يريدها إردوغان مواصلة صعودها إذا حوّلت نفسها من دولة تصدّر السيارات (تصديرها الرئيس) إلى مركز لموقع «غوغل». فرأسمال تركيا وطبقاتها الإبداعية سيتركان البلاد إذا ما استمرت الحكومة في مسارها الحالي، كما أن رؤوس الأموال والمواهب الدولية ستتجنب دخول البلاد إذا لم يتمكن قادتها من توفير نفاذ غير مقيّد إلى الإنترنت، وضمان حرية التعبير ووسائل الإعلام والتجمعات والاتحادات، واحترام حقوق الأفراد والمخاوف البيئية والمساحات الحضرية والمساواة بين الجنسين، وإذا بقيت تركيا مجتمعاً منفتحاً، ستواصل تقدّمها. أما إذا لم تعد ديمقراطية، فسيتوقف هذا التقدّم.

إن نمو تركيا مرتبط مع الحظوظ السياسية لإردوغان بشكل وثيق. كما إنها مرتبطة بالاقتصاد العالمي وبالحريات المتوافرة للمواطنين في معظم البلدان المتقدمة. وفي الواقع، يمثّل الاقتصاد نقطة ضعف إردوغان. فعلى الرغم من نمو اقتصاد تركيا بشكل ملحوظ من حيث الحجم منذ عام 2002، إلا أنه لا يزال صغيراً بما يكفي لكي ينكشف بشكل يرثى له على الصدمات الدولية المحتملة. لا بدّ من الاتعاظ من التباطؤ العالمي الذي كاد يدمّر اقتصاد كوريا الجنوبية في عام 1997، في وقت كان فيه اقتصاد ذلك البلد قابلاً للمقارنة تقريباً مع اقتصاد تركيا في أوائل عام 2017. لقد كان الانهيار الاقتصادي السبب الذي أتى بإردوغان إلى السلطة عام 2002، ويمكن لانهيار اقتصادي مماثل أن يعني نهاية حكمه.

سونر جاغابتاي

* مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن

* مؤلف كتاب «السلطان الجديد: إردوغان وأزمة تركيا الحديثة»

* معهد واشنطن