عبر التاريخ سنجد أن أمماً عدة قد مرّت بتحديات استثنائية. تحديات إنشائية ومشاريع فذة ومريعة خاضتها شعوب وحضارات لتخرج بعدها قوية وعظيمة.

كتب (أنيس منصور) مرة أن أهرامات الجيزة بإعجازية تنفيذها وهندستها قد كانت بوتقة لصهر طاقات أجيال وأجيال من المصريين القدماء. عند البعض إن الأهرامات ليست سوى مثال مريع للسُخرة ولاستعباد الشعب في أسوأ الصور، هذا الكلام قد يكون صحيحاً.. لكن ذلك "المشروع" كان أيضاً "مخرطة" للمواهب.. تم تركيز قدرات الأمة المصرية بأكملها لأجل بناء الأهرامات. وكل طبقات المجتمع -الدولة بأسرها في الواقع- قد تمحور وجودها حول هذا الهدف: بناء المقبرة الفرعونية. سنجد أن المؤسسات الاقتصادية والمعرفية الفرعونية قد تركزت لهذه الغاية. نوعية الحروب التي خاضوها واتجاهات حركة التبادل التجاري مع الأمم المجاورة وسوق النخاسة والعبيد والمعارف الهندسية والإنشائية التي برعوا فيها.. كلها كانت لأجل تلك الغاية الرسمية الأولى.. بغض النظر عن مدى عدالتها أو خيريتها.

نفس الكلام سيقال عن سلالات الصينيين القدماء التي بنت السور العظيم. ونفس الكلام يمكن أن نقوله عن قصة أميركا مع القنبلة الذرية.. أو مع مشروع (أبولو) لغزو القمر. فمنذ أن أطلق الرئيس (جون كينيدي) وعده عام 1962 بألا ينقضي العقد إلا ورجل أميركي يخطو على القمر، فقد تم تسخير طاقات الأمة الأميركية المعرفية والاقتصادية لأجل هذا الهدف المهول. البعض يصر على أنها كذبة وأن أميركا لم تصل أبداً للقمر. هذا لا يهم ولا يعنينا لأن الواقع على الأرض يقول إن النظام التعليمي الأميركي والصناعة الأميركية قد شهدت انتعاشة مذهلة في تلك الأيام تحت تلك الذريعة. والأميركيون المشمئزون اليوم من رداءة مستوى التعليم العام بمدارسهم يحنون لتلك الأيام ويقيسون عليها.

نحن في السعودية يجابهنا اليوم تحدٍ من هذه النوعية.. وإن لم يحظ بنفس هالة الفخامة والـ "برستيج". تحدينا الإنشائي التنموي الهندسي الأول الذي يمثل أكبر مُعيق وأكبر فضيحة تجابهنا بين الأمم هو في غياب شبكة مجارٍ وصرف صحي في مدننا الرئيسة الكبرى.. الرياض وجدة تحديداً. وهذا كلام ليس فيه "تريقة" ولا سخرية مريرة ولا تعريض بأحد. إنه الواقع المرير الذي نشاهده بأم أعيننا والذي يقتحم علينا بيوتنا وفصول جامعاتنا ويدمر ممتلكاتنا في كل موسم مطر. إن مدننا الكبرى تغرق في شبر مياه في منظر مخزٍ ومعيب كل سنة. هناك سؤال كبير من المسؤول عن هذه الفضيحة ؟ لكننا بغض النظر عن إجابة السؤال مطالبون بحل المصيبة. مطالبون بتعديل الخطأ وبإنشاء شبكة لتصريف مياه الأمطار تغطي جدة كلها وتغطي الرياض كلها بملايين سكانها ومبانيها وشوارعها المكتظة بكل شيء. وهذا مشروع مهول على كل الصعد يستحق أن نكرس له طاقات الجيل.

نحن مطالبون بتسخير الجهود وتكريسها لخلق ثقافة عمّالية.. ولخلق ثقافة أخلاقية أيضاً. مطالبون بتكريس منظومتنا الاقتصادية لخلق كيانات هندسية ومقاولاتية قادرة على مجابهة هذا التحدي بكفاءة ونجاح. مطالبون بخلق كوادر فنية وهندسية وأكاديمية مؤهلة لتجاوز فشل من سبقوها وللاستجابة لمتطلبات هذا المشروع الخرافي الذي ستتعطل بسببه حياتنا لسنوات بالتأكيد، لأننا سنحفر تحت كل شارع وكل تقاطع بالرياض وبجدة كي نستكمل شبكة التصريف الموجودة ولكن فقط على الورق.

إن التأمل في تفاصيل هذا المشروع مريعة وكفيلة ببث القشعريرة في الأوصال. لكن ما من مفر وليس هناك بديل. هذا مشروع جبار حقيقي وأكثر أصالة وأهمية من كل مخططاتنا الورقية البهرجية الأخرى.

إنه مشروع حقيق بأن تُنتج على حسه أفلام وثائقية تعرضها (ناشيونال جيوغرافيك) كما تفعل مع مولات دبي وملاعب قطر. بل هو أهم من ذلك كله.

حتى ذلك الحين فإن التاريخ سيتذكرنا ولكن بسخرية وباستغراب بأننا الشعب الذي أنشأ مدناً لماعة ذات قشرة زاهية إنما طافحة بمياه المجاري والأمطار التي يكفي 12 ملم منها خلال بضع ساعات لتغرق.

نحن لا نريد أن يذكرنا التاريخ بالأمة التي يغرقها شبر الماء!