كما طرحت المتغيرات الرئيسية التي أخذت مكانها أثناء الحضارة اليونانية تساؤلات وجدلا فلسفيا حول كنه الوجود وتفسير الظواهر والمتغيرات التي تجري في الكون، فإن الانتصارات العلمية، والاكتشافات الجغرافية، والثورات الاجتماعية أسمت هي الأخرى مجتمعة في طرح موضوع التغيير الاجتماعي بحدة أكثر. وبطروحات متباينة ومتناقضة.

وجد الفيلسوف الألماني ليبنيز أن التقدم الإنساني يتم وفق مراحل ضرورية، وأن الطبيعة لا تقفز فوق تلك المراحل أبدا، وجاء بعده إمانويل كانت معتبرا أن التاريخ الإنساني يسير بثبات ولكن ببطء إلى الأمام.

ومع انتصار الثورة الصناعية، غدت المهمة الأساسية للقوى الاقتصادية الصاعدة، هي إحكام قبضتها على المجتمع الجديد، وتعميم مناهجها وعقائدها الفلسفية والاقتصادية. وجاء آدم سمث بكتابه ثروة الشعوب1723-1790 ليحدد إطار الفلسفة الاقتصادية لهذه الطبقة معتبرا أن الوسيلة الأساسية لزيادة الإنتاج تكمن في تقسيم العمل واستخدام الآلات الميكانيكية، إلا أن تحقيق درجة عليا من التخصص هو رهن باتساع السوق، وذلك لأن المقادير الكبيرة من مادة منتجة لا يمكن بيعها في مجتمع صغير أو صبغة محلية محدودة.

أكدت التطورات العلمية، بما لا يقبل شكا أو جدلا أن التطور الإنساني إذا ما أتيح له عمل سياسي فإنه يستطيع الكشف بقوة أكبر عن القناع الذي يحجب قوانين الطبيعة، كما كشفت أيضا، أن المعرفة هي سبيل الإنسان الوحيد للتحرر من الخوف. وقد عجلت هذه الإنجازات في بلورة فكر عام اهتم بدراسة تطور المجتمعات والقوانين والعوامل التي تحكم مسيرة هذا التطور. وقد برز فلاسفة استطاعوا من خلال دراستهم العميقة للتاريخ، واستعانتهم بالمعطيات العلمية، أن يقدموا لنا نظريات متكاملة ما زالت حتى يومنا هذا مثار خلاف وجدل عنيفين.

وقد كان من نتائج هذا الجدل، انقسام العالم إلى شطرين، شطر صناعي متقدم بما يملكه من قدرات علمية هائلة وثورات اقتصادية كبيرة وفتوة حضارية، وقسم آخر تقليدي متخلف في كافة مجالات الحياة، هو ما يعرف الآن بالعالم الثالث.

وقد انقسم الشطر الأول، المتقدم، بعد ثورة أكتوبر في روسيا عام 1917م، بشكل حاد إلى نظامين اجتماعيين، الأول رأسمالي يلتزم بالحرية الاقتصادية، والمزاحمة الحرة، ويقدس الملكية الخاصة، ويسترشد بآراء آدم سميث وماكس فيبير كدليل للمناهج الاقتصادية والسياسية التي يسير عليها. ووفقا لفلسفة هذا النظام الاجتماعي فإن التنمية والتطور إنما يتحققان عن طريق التنافس بين الأفراد والمؤسسات وإطلاق المبادرات والحوافز المادية، فذلك هو السبيل، من وجهة النظر الرأسمالية، للحصول على النتيجة الأفضل.

أما النظام الاجتماعي الآخر، فيؤمن بسيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، وأن التنمية الاقتصادية تتم عن طريق التخطيط الملتزم بتنفيذ الأولويات من المشاريع التي تستجيب لتلبية الحاجات الأساسية للجماهير، ويرفض أن تكون التنمية في المجتمع حاصل فوضى ومضاربات الحرية الاقتصادية، وأن تكون القيمة النقدية للسلع المنتجة خاضعة لقانون العرض والطلب، ويسترشد بالنظرية الماركسية كدليل عمل في قيادة المجتمع والدولة.

وعلى الرغم من التباين الحاد بين النهجين الرأسمالي والاشتراكي فقد اتفقا على أن الطريق الرأسمالي خطوة متقدمة على طريق الارتقاء بالحضارة الإنسانية، وبأنها مرحلة حتمية وضرورية لتجاوز النظام القديم. ففي حين اعتقد الرأسماليون أن نموذجهم في الحكم سيكون هو النموذج العالمي الأمثل الذي سيتم عن طريقه انتقال المجتمع الإقطاعي في العالم بأسره إلى مجتمع التصنيع والتقدم، فإن الماركسية اعتبرت المرور بمرحلة الرأسمالية، ونقل النموذج الغربي مرحلة "حتمية" من مراحل التاريخ الإنساني، وأنها خطوة متقدمة على المراحل التاريخية التي سبقتها. وعلى هذا الأساس، لم يعارض ماركس ارتباط العالم الثالث بالمعسكر الرأسمالي، وإن كان بصيغ الاستعمار والاحتلال. ونتيجة لهذا التحليل التقى الفكر الماركسي بالتصور الرأسمالي في أن الاحتلال البريطاني للهند سيختزل المرحلة الإقطاعية فيها، وينقلها إلى عالم الصناعة والتطور.

ومن جهة أخرى، أدى انشطار العالم الحاد إلى غربي متمدن وعالم ثالث متخلف لقيام مجموعة من الكتاب الغربيين باستنباط نظريات عنصرية ترجع أسباب التخلف في العالم الثالث إلى عوامل عرقية أحيانا، وجغرافية أو دينية في أحيان أخرى. فبرز الحديث عن التفوق العلمي للجنس الآري، وعن جينات مختلفة ترتبط باللون الأسود، وعن اتصاف السكان الذين يعيشون قريبا من خط الاستواء بالخمول والكسل، وأن الإسلام دين محافظ يرفض التطور ويؤمن بالعنف، وأنه نقيض المسيحية التي تدعو إلى العمل والتعاون والحب.

ومن جهة أخرى اهتمت دراسات هؤلاء الكتاب الغربيين بمحاولة تحديد خصائص معينة يميز عن طريقها بين المجتمع المتمدن، والمجتمع المتخلف. ووفقا لهذه الدراسات نظر إلى المجتمع التقليدي أنه يستند على تقاليد اجتماعية موروثة، وهيمنة أفكار متخلفة تعتمد على السحر والشعوذة والدجل. كما نظر إلى المجتمع المتقدم على أنه قانوني عقلاني قائم على أساس الخضوع لقوانين ودساتير مدنية محددة يتفق عليها المجتمع من خلال المؤسسات الديموقراطية الممثلة للشعب، ولذلك وصف هؤلاء المفكرون المجتمع المتخلف بأنه مجتمع بدائي، بدوي، أو ريفي زراعي، ساكن، تقليدي، يسوده حكم الفرد. يقابله مجتمع مدني صناعي متحضر، متحرك، عقلاني، متمدن.

وفي مقدمة هؤلاء الكتاب، الذين اهتموا بدراسة خصوصية المجتمعات الحديثة، يبرز السير هنرى ماين الذي قسم المجتمعات إلى نوعين: ساكن، وتعاقدي، وقال إن التطور يعني الانتقال من الساكن إلى التعاقدي، ومن مجتمع تقليدي جامد إلى مجتمع مدني عقلاني تربط بين أبنائه علاقة تعاقدية قائمة على اعتبارات خاصة.

ما هي التطورات التي أحدثها انشطار العالم إلى كتلتين رئيسيتين، في الشرق والغرب، على مفهوم التنمية؟ وما هي إسقاطات ذلك على شعوب العالم الثالث؟ قضايا سنتناولها في الحديث القادم بإذن الله تعالى.