المتأمل في كثير من القضايا الجدلية التي تظهر في وسائل الإعلام العربية، يستطيع الوصول إلى نتيجة واحدة هي أن مجتمعاتنا تعاني ازدواجية معايير. وبما أن ما يطرح من قضايا في الأعمال الفنية، من أكثر الأمور إثارة للجدل عربيا، فإنه كذلك من أكثر مؤشرات هذا الانفصام الفكري. حيث عادة يُطالب الفنان أو المبدع في أي مجال، بأن يناقش قضايا وطنه ومجتمعه بشفافية.
عندنا في السعودية يماط عنها الغبار وتجهز في الوجوه قبيل شهر رمضان المبارك لأنه موسم" طاش" الذي حصل هو والقائمون على أرقام قياسية من الفتاوى والشتائم، ليس لشيء، إلا لأنهم حاولوا لمس أطراف هذا المجتمع "الملائكي" فكشفوا بعض عوراته.
أما هذه الأيام فالراية استلمها بعض "الإخوة " في مصر الذين رأوا أن فيلما جديدا يِحمل اسم (ستة ،سبعة، ثمانية) يدخل في قائمة "المسيئين" لمصر وصورتها، لأنه يتطرق بشكل صريح إلى تفاقم مشكلة التحرش بالنساء في شوارع مصر، ويحاول كشف أبعاد هذه القضية التي اعترفت بها الدراسات الاجتماعية وحذر من تفاقمها المختصون. وللدفاع عن "صورة البلد" أقيمت عدة دعاوى ـ نُظر بعضها أمس في محكمة الأمور المستعجلة في القاهرة، ولا أعرف بالطبع ما صدر بشأنهاـ تتهم القائمين على الفيلم بـ"الإساءة لمصر"، وهذه التهمة فهمناها بناء على ما ذكر سابقا. لكن المثير والمضحك في الخبر الصحفي الذي بثته وكالة الأنباء الفرنسية عن القضية أن التهمة الأخرى هي "تحريض النساء على التعدي على الرجال المتحرشين، وذلك من خلال تدريب الفتيات على استخدام العنف والتحريض على نشر الألفاظ المسيئة التي تتعارض مع الآداب العامة والتقاليد والأعراف المصرية، ويحرضهن كذلك على ارتكاب جريمة جنائية بإصابة الشباب الذين يتعرضون لهن في مناطق حساسة".
وهنا أتمنى من أصحاب هذه الدعاوى والفتاوى سواء عندنا في المملكة أو في مصر أو غيرهما من الدول العربية، تنورينا ماذا يريدون من العمل الفني والأدبي؟ فإن أدى دوره الحقيقي في كشف مشكلات المجتمع الثقافية والاجتماعية، اتهم بأنه "يسيء للبلد"، وإن لم يفعل وتطرق لقضايا هامشية أو "فنتازيا وخيال" قيل إنه دخيل ولا يؤدي الدور المفترض به في خدمة "قضايا الأمة".
ولذلك تحول الكثير من المنتجين إلى أفلام الرقص على "حبة ونص" لأنهم أيقنوا بأنهم لن يسلموا من الألسن والدعاوى، فعلى الأقل هذه النوعية من الأفلام تملأ الجيوب وتوفر المحامين القانونيين بمداخليها العالية.