ما من مرة صدرت فيها ميزانية الدولة إلا كان حديث المجالس عدم تماثل أرقام إيرادات الميزانية التقديرية أو الفعلية مع الأرقام المفترضة لحصيلة مبيعات ما تنتجه المملكة من البترول، وتختلف الاجتهادات في ذلك وتصل لحد أن البعض يمسك بالآلة الحاسبة ويضرب حجم كمية إنتاج المملكة اليومي من البترول في متوسط سعر البترول التقريبي في عدد أيام السنة، ويعتبر الحاصل هو المبلغ التقريبي لدخل مبيعات البترول، وقد أوضحت هذا مراراً وقلت إنه ناتج من عدم الإفصاح في الميزانية عن الأسس التي يتم بناء عليها تحديد الإيرادات التقديرية أو الفعلية ورجوت من وزارة المالية الإفصاح عن ذلك بشكل دقيق لتزول البلبلة، ولا يكون هناك مجال للأوهام والتصورات الخاطئة، ولكن الوزارة دائماً تفضل الصمت ولا تستجيب للرجاءات، ومن أجل ذلك فقد اضطررت في آخر مقالاتي في هذا الشأن الذي نشرته "الوطن" في عددها (3662) إلى التغلغل في الإحصاءات والأرقام التي تنشرها الوزارة ضمن مشروع الميزانية التي تؤكد وجود تباين بين جملة المبالغ المتحصلة من صادرات البترول وأرقام إيرادات الميزانية، إذ يتضح من الأرقام والإحصائيات أن صادرات البترول كما ورد في الإحصاءات المنشورة في مشروع الميزانية نفسه تزيد بما لا يقل عن (155) مليار ريال، وتساءلت في مقالي الذي كان عنوانه (أين يذهب هذا الفرق الكبير بين إيرادات الميزانية النفطية والصادرات البترولية؟) عن الجهة أو الجهات التي يذهب لها هذا الفرق، والمجالات التي تستخدم فيها، وقلت في المقال إن الغاية مما ذكرت إيضاح أن مشروع ميزانية الدولة يفتقر للشفافية، وأن هذا يجعل المحللين الماليين لا يتمكنون من التوصل إلى الاستنتاجات التي هي أصلاً من صلب واجباتهم أمام الرأي العام، وعاتبت وزارة المالية فسألتها لماذا لا تكون شفافة فتعينهم على أداء واجباتهم، وتقدم لهم المعلومات التي بدونها لا يستطيعون التوصل لما يريدون.. وقلت إني قد أكون مخطئاً في تحليلاتي وحينئذ يكون على وزارة المالية واجب أكبر، وهو إزالة البلبلة التي قد يحدثها مقالي نتيجة لاجتهاد خاطئ.. ولكن الوزارة واصلت صمتها.

وما دامت وزارة المالية مستمرة في صمتها فإني مضطر لاستخدام وسيلة أخرى، وهي وسيلة المقارنة بالدول الأخرى لعلها تكون أكثر نفعاً، ولن أقارن وزارتنا الجليلة بوزارات المال في الدول القوية المتقدمة، بل بأكثر الدول اضطراباً وسوءاً في الأوضاع المالية وغير المالية وهي العراق، فقد أعلنت وزارة المالية في العراق منذ عدة أسابيع عن ميزانية العراق للعام المالي 2011، وأوضحت الأسس التي بنيت عليها تلك الميزانية، فقالت وفق ما نقلته الشرق الأوسط العدد (11677): إنها قدرت ميزانية العراق بـ(86) مليار دولار بعجز بلغ (15) مليار دولار، وبناء على حجم إنتاج يبلغ في اليوم 2.5 مليون برميل، وسعر في حدود (70) دولارا للبرميل. وبعد ذلك نشرت (المرصد العراقي) في 20 نوفمبر 2010 ما يفيد بأن الحكومة العراقية قد أدخلت بعض التعديلات عليها إذ أصبح حجمها 79.6 مليار دولار بعجز يبلغ 12 مليار دولار على أساس سعر للبرميل يبلغ 73 دولارا، وحجم صادرات يومية يبلغ 2.25 مليون برميل.

طيب هذه هي العراق أفصحت عن كل شيء عن حجم الإنتاج والسعر والمبلغ الذي سيتم تحصيله والعجز المتوقع، ومن الواضح أن الرقم يشتمل على إيرادات داخلية محدودة، فلماذا لا تكون وزارتنا شفافة مثل وزارة المال العراقية..؟

ومن ناحية أخرى فإننا لو اعتمدنا ما ذكرته وزارة المالية العراقية كمقياس، وأخذنا في الاعتبار أن إنتاجنا من النفط في حدود أربعة أضعاف إنتاج العراق وكررنا (86) مليار دولار الذي أعلنته وزارة المالية العراقية أربع مرات فإن النتيجة ستكون في حدود (344) مليار دولار، أي في حدود (1.290) مليار ريال أي أكثر من ضعف ميزانيتنا التقديرية للعام 2011 البالغة (540) مليار ريال للإيرادات و(580) مليار ريال للمصروفات بعجز قدره (40) مليار ريال، وحتى لو اعتمدنا للقياس ما وافقت عليه الحكومة العراقية البالغ 79.6 مليار دولار وليس ما قدرته وزارة المالية وضربناه في أربعة، وهو ما يمثل حجم إنتاج المملكة من النفط قياساً بإنتاج العراق فإن النتيجة أن الرقم الافتراضي لميزانيتنا سيكون (318.4) مليار دولار، وهو ما يعادل (1.194) مليار ريال، وهو لا يزال أكثر من ضعف ميزانيتنا المعلنة، فكيف نفهم يا وزارة ماليتنا هذا الفارق الضخم بين تقدير ميزانيتنا، وتقدير ميزانية العراق مع الأخذ في الاعتبار حجم إنتاجنا وحجم إنتاجهم.. ولو افترضنا أن تقدير الإخوة العراقيين لميزانيتهم ينطلق من سعر تقريبي للسعر الحالي للبترول وأن ميزانيتنا تعتمد على تقدير للسعر بعيد جدا عن الواقع، ورجعنا للإيرادات المتحققة فعلاً في عام 2010 لدينا فإننا سنجدها لم تتجاوز (745) مليار ريال بما في ذلك المبلغ الكبير الذي يفترض أنه قد حُصِّل من الإيرادات الداخلية، أي لا يزال الفارق كبيرا مما يعطي الانطباع للمتأمل بأن هناك مبالغ كبيرة ليست بعشرات المليارات بل بمئات المليارات من إيرادات النفط عندنا لا تدخل في إيرادات الميزانية.

مرة أخرى أقول لوزارة المالية إنني لم أذكر ما ذكرته في المقال السابق، وما أذكره الآن عن إيرادات وحجم الميزانية العراقية إلا لغرض إيضاح ضعف الشفافية في أرقام ميزانيتنا، وأن هذا يخلق بلبلة لدى البعض ويجعلهم يضطرون لإجراء المقارنات عندما يطلعون على أرقام ميزانيات الدول الأخرى كتلك الأرقام العراقية، والمفروض أن تنتبه وزارة المالية لهذا وتكون شفافة في أرقامها وواضحة في أسلوب تحديد تقديراتها، فتورد الأسس التي بناء عليها تم تحديد الإيرادات التقديرية والفعلية في بداية ونهاية كل عام مالي، ولا شك عندي أن هناك إجابات مقنعة لدى الوزارة، ولكن يفترض ذكرها.

ومن اللافت أنه في الوقت الذي تقدم فيه الميزانية أرقاماً وإيضاحات كثيرة عن المصروفات فإنها لا تقدم عن الإيرادات إلا رقماً واحداً شديد الغموض مما يجعلها بالنسبة للإيرادات ميزانية صامتة.