من مظاهر المجتمعات المتمدنة تنوع أساليب عيشها وتعقيد علاقات حياتها وتعدد مصادر معارفها وميل أفرادها ومنظماتها إلى التخصص، فالقضايا بتشعبها وتداخل عناصرها في ظل انفجار المعلومات لم يعد باستطاعة الفرد الإحاطة بتفاصيلها وأصبح محتاجا إلى الاستعانة بالآخرين ، كل في مجال اختصاصه ليوفر له ما يحتاجه.. و لم تعد المجتمعات المتحضرة تستغني عن الدراسات والإحصاءات التي تمكنها من بناء خططها على أسس سليمة تضمن لها دقة التقدير وسلامة التحليل.

ومجتمعنا يسير في هذا الاتجاه بخطى متسارعة تزداد وتيرتها مع اتساع رقعة التعليم وشيوع ثقافة الاستهلاك المنشطة لحركة "تسويق" الأفكار.. وهذه الثقافة يتصاعد حراكها في أجواء التنافس بين مروجي الدعوات ومسوقي المنتجات التجارية والصناعية والفنية والثقافية، بعد أن أصبح المستهلك هو "الجائزة" التي يتسابق الجميع للحصول عليها والدائرة التي يدور الكل حول محيطها.. يتفنن أهل كل منتج في ابتكار وسائل الإغراء ومخاطبة الغرائز والعزف على أوتار المشاعر واستثارة العواطف واستدراج العقل إلى حيل من طبيعته تجعله ينحاز إلى المنتج المراد تسويقه، سواء أكان دعوة أو وجهة نظر أو خدمة. وقد انتهى خبراء "التسويق" إلى أن المعلومات هي الوسيلة الأساسية في هذا السباق المحموم لأنها هي "أداة" الإقناع التي تخاطب العقل رغم أنها تحتال لاستدراجه بوسائل غير عقلية.. في مناخ ثقافة "الوجبات السريعة" دخل الزيف إلى باب الدراسات "المصنعة" حسب الطلب. وكما تشعبت صيغ ترويج المواد الاستهلاكية وتشكلت أحجامها وأنواعها ودخلت في التفاصيل الصغيرة، كذلك اتسعت مساحة "الدراسات" وتنوعت أهدافها وتباينت مراميها فهي تغطي القضايا الكبرى، التي ترسم اتجاهات الرأي العام كما الدراسات المحدودة التي تعالج استهلاك منتجات كمالية لا تهم إلا فئة صغيرة من المجتمع.

والاهتمام بالدراسات – على عمومها – كبيرها وصغيرها، جليلها وحقيرها، - شيء إيجابي تستدعيه – كما قلنا – طبيعة العصر وتعقيد العلاقات الإنسانية ومستلزمات انفجار المعلومات. وهي ظاهرة صحية إذا استندت على ضوابط تصحح مسارها كلما انحرفت بها الأغراض الخاصة.. لكن ما هي الدراسات التي تدل على وعي المجتمع وتلبي احتياجاته؟.. وما هي مواصفات تلك الدراسات ومن يضمن سلامتها واتباعها للمعايير العلمية المتفق عليها؟.. لا شك أن الوعي واتساع الثقافة وتدريب الناس على احترام العلم واعتبار مقاييسه هو "وحدات" القياس التي تضمن سلامة أي عمل يتعلق بحياة الناس.

ويبدو أنه على مجتمعنا أن يدفع ضرائب أشياء كثيرة في طريق تقدمه، ومن تلك الضرائب ما يدفعه في وعاء الدراسات .. فنحن نسمع كثيراً من الأخبار عن دراسات الجدوى ودراسات المشاريع ودراسات تتعلق بمظاهر السلوك في المجتمع ولا ندري إلى أي مدى تعبر تلك الدراسات عن الواقع؟ وإلى أي مدى يمكن الاسترشاد بها أو الاطمئنان إلى نتائجها؟.

للأسف هناك الكثير من الدراسات "المفصلة" للزبون الذي يدفع تكاليفها، وهذا الزبون يتنوع في بيئتنا بحسب نشاطه فيمكن أن يكون جهة حكومية تريد أن تحسن صورتها في أعين الناس وقد تكون شركة تريد أن تقول إنها الأقرب إلى مزاج الناس وقد تكون وسيلة إعلامية تريد أن "تبيع" نفسها للمعلنين والقراء.. هذه الدراسات "التفصيل" يعرفها من عمل في وسائل الاتصال ومخاطبة الجماهير، ويعرفون مساحة الخطأ فيها ويعرفون "حيل" توجيهها إلى حيث يريد الزبون، ولهذا فإن الكثيرين من العاملين في حقل "الاتصال" يحتاطون في تقبل نتائج الكثير من الدراسات .. وهناك دراسات "الغشامة" التي لا تدفعها نوايا سيئة أو أهداف تضليل لكنها تلتبس بضعف المعرفة ونقص الخبرة، فتخلط القديم بالجديد، وتقرأ المؤشرات بغير ما تدل عليه – هذا النوع من الدراسات تزداد خطورته عندما يكون موضوعه التغير الاجتماعي ومؤشرات حراكه وحياة الناس وسمعتهم -.

وآخر ما قرأنا في باب "خلط المعلومات" ما نشرته الصحف الأسبوع الماضي عن دراسة أعدها المرصد الحضري في المدينة المنورة .. تقول الدراسة: إن 50% من الأحداث في منطقة المدينة مجرمون(!!) وإن نصيب الفرد خمسة أمتار في الحدائق والمسطحات الخضراء وإن رضا المواطنين على الخدمات الصحية والتعليمية 100% (!!!) وإن 86% من منازل المنطقة تجمع النفايات بانتظام.

وقد أوردت صحيفة عكاظ – الاثنين – 2 يناير 2011م نماذج من التناقض الذي وقع فيه معدو التقرير وخلط المعلومات الذي أساء إلى "رصانة" التقرير ومصداقيته وموثوقيته، فقد أورد التقرير أن نسبة الأسر الفقيرة في المدينة تبلغ 14,5% بحسب المسح الاقتصادي والاجتماعي الذي قام به المرصد عام 1430هـ وأن معيار قياس فقر الأسرة هو أن يقل دخلها عن 2,000 ريال (ألفي ريال) وأن هذا المعيار كان يؤخذ به منذ 1426هـ، لكن يفاجأ قارئ التقرير في صفحة أخرى منه بورود نسبة 20% من الأسر يقل دخلها عن 2,000 ريال.

ليس موضوع هذا المقال دراسة المرصد الحضري في المدينة، إذ لم أقرأ التقرير حتى أبدي وجهة نظري الموضوعية، ولا أريد أن تستدرجني تقارير الصحافة، التي أوقعت بعض الكتاب في حرج حين لا تحترم الدقة في نقل الأخبار، لكن أردت فقط الإشارة إلى ظاهرة الدراسات الحديثة في مجتمعنا التي تواجه بعقبات كثيرة بعضها نتيجة الجهل وبعضها رغبة في "التعتيم" على الحقائق وبعضها "أماني" في أن يظل الناس يجهلون حياتهم وينعمون بجهلهم وعماهم.