تناولت على عجلة في موضوع الاثنين الماضي الحاجة إلى تقييم مقدمي الخدمات في أجهزة الدولة بدءا من الوزير وانتهاء بأصغر مسؤول. كنت أشير إلى عامل الوقت وأن الحاجة إلى التقييم والتأكد من وجود القيادة القادرة على تنفيذ تطلعات الدولة أصبحا أمراً ملحاً وليس ترفاً نمارسه متى وكيف ما نشاء.
سأحاول هنا إلقاء الضوء على دورالوزارة المحورية في كل هذا القصور وهي وزارة الاقتصاد والتخطيط التي لم أتناولها في الأسبوع الماضي بسبب ضيق المساحة. هذه الوزارة حقيقة هي الأكثر غياباً عن الساحة ولا أدري من منكم يستطيع أن يجد ما يتحدث فيه بإيجاب عنها وعن مساهمتها في تنفيذ الخطط التنموية الكبرى التي تعاقبت على الوطن؟ أين معالي الوزير خالد القصيبي عن وسائل الإعلام والندوات واللقاءات في المنتديات المحلية والإقليمية؟ أين الترويج للخطط التنموية؟ أليست هذه الوزارة هي المسؤولة عن وضع الخارطة الكبرى للتنمية في المملكة؟ عندما تحدثنا في الأسبوع الماضي عن افتقار بعض مناطق المملكة إلى الرعاية الصحية وبعض البنى التحتية الأخرى فنحن في الواقع نتحدث عن دور وزارة التخطيط الغائب.
ما الذي كان يمنع هذه الوزارة مثلاً أن تقترح خارطة تنموية متنوعة تغطي معظم مناطق المملكة كما تشير إليه في كل عام بيانات الميزانية العامة للدولة؟ لماذا لم تضع الوزارة رؤية مفصلة عن توزيع ثروات البلاد على عموم المناطق في مملكتنا الحبيبة لينعم بها أبناء وبنات تلك المناطق؟ قد يسأل سائل: كيف؟ سأتناول الإجابة على شكل أمثلة.
تستطيع الوزارة أن تقترح وضع أفضل كلية للهندسة في المملكة في مدينة كمدينة الجوف. تنفيذ مثل هذا الاقتراح سيساعد هذه المدينة وأهلها على الازدهار. اختيار أفضل كلية للطب في مدينة عنيزة سيحولها إلى مركز طبي علمي كبير بعد عقد من الزمان وسيعزز من مكانتها واقتصادها. تأسيس أفضل مستشفى للعظام والعمليات الخاصة بالعمود الفقري في المملكة في مدينة الوجه مثلاً سيعزز من وضع المدينة وسيعود على أهلها بالتنمية الشاملة. في نفس السياق، لماذا مثلاً لا تصبح مدينة كالطائف أو الباحة مركزاً عالمياً للمؤتمرات تقام به أكبر المعارض العالمية والندوات العلمية؟ وهل من عائق يمنع تحويل منطقة عسير إلى مركز إقليمي أو عالمي للسياحة بحيث تتمكن من استقبال الملايين كل عام؟ لو بادرت الوزارة إلى ترويج مثل هذه الأفكار وأسست البنى التحتية والتخطيط المثالي في تلك المناطق لأقبل المستثمرون على تطوير المشاريع هناك وهم يتسابقون. مثل هذا التوزيع الإنمائي للمشاريع المهمة الحيوية على عرض المملكة وطولها سيرفع من شأن هذه المناطق ويزيد من عدد الزائرين إليها وسيشجع رؤوس الأموال على الاستثمار بها. ونتيجة لذلك سيتم تشييد الفنادق وتطوير المطار وتحديث وسائل النقل وتنوع منافذ التغذية والضيافة وارتقاء وسائل ووسائط التنظيم. كل هذا في النهاية يخلق وظائف جديدة تحتاجها اقتصادات هذه المناطق لتنفيذ هذه الخدمات.
الحقيقة أن فشل هذه الوزارة في فرض مثل هذه الخارطة الحيوية لا يضر فقط بساكني تلك المناطق بل يضر المدن الرئيسة الكبرى. فمدينة كالرياض أو جدة أصبحتا مركز الجذب لكل من يبحث عن عمل. النزوح الهائل من الأطراف يزيد من الأعباء الكبيرة ومن الخدمات اللوجستية على المدن الكبرى. هاهي الرياض تعاني من الاختناق المستمر في الحركة وتسعى بقوة لتطوير الطرق وفك الاختناقات. غير أن استمرار النزوح سيتفوق على هذه الإجراءات وسنجد أنفسنا في العاصمة من جديد ننتقل إلى مناطق سكنية جديدة شمالاً وشرقاً وغرباً وجنوباً كما حدث في العقدين الماضيين.
النقطة الأهم أن غياب دور التخطيط الاستراتيجي الحكومي المتمثل في مبادرات وخطط وزارة الاقتصاد والتخطيط لا يشجع رؤوس الأموال على ضخ الاستثمارات في تلك المناطق والعكس صحيح. هذا "رالي حائل" الذي غامر من أجل إنجاحه البعض لكنه يعود لينحسر بدلاً من أن يكبر ويتطور بسبب أن الدولة لم تقف مع الفكرة قلباً وقالباً. لو أن للوزارة دورا في تطوير هذه الأنشطة السياحية الهامة لتذللت معظم الصعاب التي واجهت نجاح مثل هذه المبادرة الجميلة. المؤسف أننا نملك عوامل النجاح الرئيسة وهي المال والبشر بمعنى أننا لسنا دولة فقيرة تستجدي الإعانات من الخارج ولا نعاني من قلة عدد السكان.
الأمثلة التي طرحتها ليست من رأسي. في الولايات المتحدة يوجد الكثير من المدن الجامعية الهامة التي يعتاش أهلها الأصليون على تواجد الطلاب وإنفاقهم وأنشطتهم. وفي مدن أخرى توجد مراكز طبية متقدمة. مستشفى "مايو كلينيك" الشهير يوجد في مدينة نائية في ولاية ميناسوتا. وجود هذا المركز العالمي هناك أصبح حاسماً في نمو الناتج المحلي ليس لتلك المدينة فقط بل للولاية بأكملها رغم تعدد مناشطها الصناعية والسياحية. ولا يمكننا بالطبع تناسي دور شركة ديزني في التنمية الهائلة التي اجتاحت مدينة أورلاندو وضواحيها. هذه المدينة كانت قرية نائية في ولاية فلوريدا قبل اختيار الشركة لها.
إن استمرار استبعاد هذه المدن من الخطط التنموية وتأخر تأسيس البنى التحتية الضرورية للتنمية الاقتصادية يحولها إلى عبء كبير على الاقتصاد الوطني بأكمله. وزارة الاقتصاد والتخطيط لا يغيب عنها بالتأكيد هذا المفهوم وهذه الحقائق. لماذا لا تحرك ساكناً؟ الله أعلم.
أعود إلى ما بدأت به وهو ضرورة تواجد القيادات المناسبة والمجربة في نجاحاتها لكل نشاط أو توجه سواء في هذه الوزارة أو في غيرها من المؤسسات أو الوزارات الحكومية الأخرى. ونتساءل مجدداً، هل القيادات المناسبة لفرض مثل هذه الرؤى الاستراتيجية الوطنية الهامة متوفرة في المملكة؟ أنا أعلم علم اليقين أنها متوفرة وأن معظمها يعمل في مناشط القطاع الخاص. ما الذي يمنع مثلاً من اتباع طرق القطاع الخاص في تعيين كبار التنفيذيين، ومنها تطبيق بعض المعايير العلمية مع ضرورة مراقبة الأداء وتطبيق مبدأ الثواب والعقاب كما أشرت سابقاً. خلافاً لهذا التحرك سيبقى الكثير من الخطط رهن الأدراج وستئن هذه المدن تحت وطأة الكساد الاقتصادي لتبقى عبئاً يتضخم على كاهل الاقتصاد الوطني.