حوّل البروفيسور والفيلسوف، اللبناني الأصل، والنيويوركي المقرّ، نسيم طالب، المحاضرة المُعدّة سلفاً والتي كان من المفترض أن يتحدث فيها عن "مخاطر الحوادث الاستثنائية على الاقتصاد الدولي"، إلى نقاش فلسفي عميق، يناقِش جوهر وأساس الحضارة الغربية الحديثة، ويأتي على مُساءلة بداهة قيمها المعرفية والأخلاقية.


وكان نسيم طالب، وهو أيضاً بروفيسور هندسة المخاطر في جامعة نيويورك وصاحب الكتاب ذي المبيعات الأبرز في عام 2007، (البجعة السوداء)، قد فاجأ الحضور النوعي المحدود في قاعة الجفالي بغرفة جدة التجارية والصناعية صباح الأحد الماضي، بمبادرته لإلقاء محاضرته باللغة العربية، والتأكيد على خياره ذلك، على الرغم من وجود حضور أجنبي جُزئي، معتبراً أن قراره نابعٌ من نزوعٍ عاطفي واعتداد حضاري في آن.


وشرَعَ طالب في شرح عامل نظريته الرائدة: (البجعة السوداء)، والتي تعني حرفياً "الحدث الاستثنائي"، حيث تقوم على تقديم الطريقة الأمثل لمواجهة آثار ذلك "الحدث الاستثنائي" أو "البجعة السوداء" كما يسميها، لحظة حدوثها.. مؤكداً أن حدث البجعة السوداء ينسحب على كافة مضامير الحياة والمعرفة، فهي قد ترد في السياق الاقتصادي على شكل انهيار في أسواق المال، أو تحدث في السياق المعرفي على شكل قطيعة معرفية، أو في السياق الاجتماعي على شكل حروب ونزاعات، أو حتى في السياق الطبيعي مثلما حدث في كارثة سيول جدة.. "فهي لا تكاد تمطر، ولكنها حينما أمطرت حصدت مئات الأرواح".


نسيم طالب، الذي تكتسب نظريته وملاحظاته ووثيقته العشرية لتطبيقات الحماية من حدث البجعة السوداء، أهمية عظمى وصيتا إعلاميا واسعا، تتأتى من كونه أحد المستبقين لسيناريو الأزمة المالية التي ضربت مؤسسة الوول ستريت في صميمها. كان طالب قبل الأزمة يجوب المحاضن المالية في ضاحية مانهاتن، ليلقي المحاضرات على مسؤولي إدارة المخاطر فيها، حول فشل ومغالطة نماذجهم القائمة على التنبؤات المُضللة. في مارس من عام 2007، وعلى تقاطع شارعي 47 أفينيو والبرودواي، كان نسيم طالب يُلقي محاضرة لاذعة على فريق إدارة المخاطر في مصرف مورجان ستانلي، وُصم في نهايتها بالمُهرطِق والحالم المتعالي، ذلك كان قبل ستة أشهر من مواجهة البنك لأزمته الائتمانية العظمى.


لم يكن الأمر مُصادفة، ففي الوقت الذي تأزمت كافة المؤسسات التي سخر القياديون فيها من نظريات نسيم طالب، كان صندوق التحوّط الذي ارتبط به، والخاضع لما عُرف بأنظمة حماية البجعة السوداء (Black Swan Protection Protocol)؛ صندوق (يونيفرسا)، يحقق ما يقارب المليار دولار في عز الأزمة المالية. يقول نسيم طالب، "صندوق تحوط يونيفرسا، لم يكن يستهدف المكاسب الضئيلة الدائمة كما في باقي الصناديق، كان على عكس ذلك يقوم على إدارة الحدث الاستثنائي، الذي يُدر أرباحاً آمنة".


ولا يحرص طالب على إخفاء شماتته من إخفاقات أصدقائه القدامى في وول ستريت، يقول: "إن القائمين على البنوك، معميو البصر والبصيرة عن إدراك الأخطار المتربصة بهم، في ظل النظام المالي السائد"، مؤكداً أن إدارة أوباما تتجاهل أصل الأزمة المالية وتتقاعس عن اجتراح حل جذري لها. "كل ما يجري واقِعاً هو تأجيل لنتائج الأزمة الأفدح"، في إشارة من نسيم طالب إلى توجهات إدارة الرئيس الأمريكي أوباما باستدانة ستة تريليونات دولار إضافية في السنوات القادمة. معتبراً أن ما تفعله الحكومات اليوم، من أمريكا واليونان وألمانيا وأيرلندا ودبي، ليس إلا نموذجاً مُكبراً من المحتال النيويوركي، سيئ الذكر، روبرت مادوف!


نسيم طالب، لا يكل من مطالبة الرئيس أوباما بالاعتراف بخلل النظام المالي العالمي وفشل نموذجه، والقيام بتسديد كافة الديون بدلاً من تنميتها، وإجراء تغيير جذري وراديكالي، يقوم في أساسه على اقتصاد لا يعتمد على الديون. ولا يدور نشاط نسيم طالب البحثي والخَطَابي بعد الأزمة، إلا على مدار دعوة المؤسسات المالية والشركات الكبرى، بل وصناع القرار السياسي، لتصحيح أوضاعها الائتمانية ووقف الإفراط في مطب الديون.


وهو يُعلن طرحه الثقة في النخبة التي تدير الملفات المالية في الولايات المتحدة، مشنعاً على بن برنانكي، وتوماثي جيثنار، ولاري سمرز، معتبراً أن الأخير غير مؤهل لقيادة المجلس القومي للاقتصاد بالذات، حيثُ سقطت جامعة هارفرد في عهده بسبب سياسته المالية المتهورة. ويقول طالب، "إن المجموعة التي تمنح حق قيادة حافلة طلاب مدرسة، ويقومون بالاصطدام بها، لا يجب أن يُعطوا حق قيادة الحافلة مرة ثانية"، في إشارة للنقطة الثالثة من وثيقته العَشرية لتطبيقات الحماية من أحداث البجعة السوداء.


وفي حين يُشنّع بالقيادات المالية لدولته، يمتدح كثيراً دايفد كاميرون، رئيس الحزب المحافظ ببريطانيا، الذي تبنى تسع نقاط من وثيقته العشرية نحو إقامة المجتمعات المتينة.


طالب الذي يقوم بزيارة مجدولة للسعودية، كان قد زار السبت الماضي قيادات أرامكو في المنطقة الشرقية، قبل أن يستقر في جدة لعدة أيام، كانت لا تخلو أحاديثه من نصح الحكومة والمستثمرين المحليين بعدم التورط في شراء سندات الخزانة الأمريكية الجديدة. وهو يعترف بأن صراحته ونصائحه الحادة، قد أوصلت علاقته مع كثير من الأطراف حد النصل.. منها ما جرى في البيت الأبيض، حين دعي ذات مرة لإلقاء محاضرة من شقين، لم يُدع حتى خمس سنوات تلت، لإكمال شِقها الأخير!


البروفيسور طالب، الذي يرفض في جوهر أعماله، مبدأ التنبؤات، لا يتنبأ بشيء، إلا بـ"موت الغرب"، وهذا ما سيكون عليه موضوع كتابه القادم الجديد، فالاقتصاد الغربي يرزح تحت وطأة مئة مليون تريليون دولار هذه اللحظة، ولا تلوح في الأفق أي مبادرات جذرية تروم إصلاح جوهر الاقتصاد الغربي، فكما أن الشركات الكبرى تموت، لأنها في توسعها اللانهائي، تكون أكثر عُرضة للمخاطر، كذلك تموت الإمبراطوريات والدول الكبرى، التي تتكئ على قيم استحلاب الثروة وتعظيم الأرباح. إن المجتمعات (والاقتصادات) المتينة (Robust Society/Economy)، بحسب طالب، هي تلك التي تقوم في جوهرها الفلسفي على أساس إدارة الوفرة (Redundancy)، بدلاً من النموذج الحالي القائم على استحلاب الثروة (The leverage of efficiency).


ولا تقف ملاحظاته اللاذعة على نقد جوهر النظام المالي في الغرب، بل تتوسع لتشمل قيم الحضارة الغربية الحديثة، فنسيم طالب المهووس بالشرق، وأصوله اللبنانية الأرثذوكسية، يرى أن الحضارة الغربية في القرنين المنصرمين كوّنت مظاهر زائفة، فيما تقوم في جوهرها على "شواذ معرفي".. فأغلب منتجات الحضارة القائمة على قيمة استحلاب الثروات، المؤَسَسة على "عجرفة ابستمية/معرفية"، تدير القفا لأسس بناء المجتمعات المتينة.


وتنعكس دعوات طالب الراديكالية للتغيير على شخصيته، فهو شديد الوداعة، شديد الصعلَكة، يلقي بالمعجنات جانباً ويقصر أكله على ما بداخل الرغيف من جبن وخس، ويؤكد على أنه يمشي في الأسبوع عشرين ساعة بالتمام، تأهباً لأي حدث "بجعة سوداء" قد يُهدد صحته الشخصية!