‏‎في هذه الدنيا المزدحمة، وهذا الكم من الهموم، والمشاكل الحياتية اليومية، الأولاد، العمل، الأزواج والزوجات، كل شيء نوليه اهتمامنا وملاحظاتنا، سواء تسوية خلافاتنا الزوجية، مستوى أولادنا الدراسي، توفير مواصلاتهم المدرسية، ندور في ذلك الفلك بشكل محموم، وننسى من الذي أوصلنا لهذا المكان، من أفنوا حياتهم لكي نكون في مثل هذا المكان، (أمًّا كانت أو أبا).

البعض يرى -وللأسف الشديد- أن دورها ينتهي هنا، يعتبرها فصلا من كتاب انتهى من قراءته، ويرفض أن يُكتب أي سطر من سطورها في كتاب حياته الجديد، بعكس البعض الآخر، الذي يعتبر أن الحياة في بيته لا طعم لها إلا بنكهة (العجوز). تجده لا يذهب لبيته بعد انتهاء عمله إلا وقد مرّ بها أولا، واطمأن عليها، وجلس يحادثها بما يعجبها من الأحاديث، وخرج منها بدعوات ينشرح بها الصدر ويزيد بها الرزق ويطول بها العمر. وعلى الجانب الآخر، كم من أمٍّ تجلس وحيدة في منزلها الواسع بصحبة الخدم، تراقب الباب بانتظار من يتذكر أن له أمًّا هنا، لكنها عبثا تنتظر، فقد طال انتظارها أسابيع بل ربما أشهر. وهناك من وضع له نظاما لا يمكن أن يتخطاه، وهو تخصيص يوم لزيارة والدته كيوم الجمعة وبعد صلاة الجمعة يمر بها مرور الكرام كأنه أحد الضيوف يشرب القهوة على عجل، وربما قد يتنازل ويتناول الغداء معها، وهو ينظر إلى ساعته باستمرار، وترى العجوز المسكينة لا تكاد تجلس إلا وتقوم مرة أخرى وتحضر له ما تطيب له نفسه، فهي تعرف ما يعجبه منذ صغره، وتخرج له مما خبأت في ثلاجتها من مكنونات عزيزة على قلبها، وثمينة بحيث لا تفرط بها لأي كان، لكنها تراها لا شيء في مقابل أن يطعمها الغالي لأولاده.

ينهض مودعا ببرود، وهي تلاحقه بقلبها قبل نظراتها، على أمل اللقاء ?الجمعة المقبلة. وكم من أم انتظرت لكن الأيام لم تمهلها ولم تمر عليها جمعة أخرى. فيا من تقرأ كلماتي الآن، منذ متى لم ترَ أمك؟ أمس؟ قبل يومين؟ قبل أسبوع؟ منذ متى لم تسمع صوتها بالهاتف إذا كانت بعيدة؟؟

قم الآن، كلمها واسمع صوتها، اسمع منها بضع دعوات تفتح لك أبواب الرزق والجنة ورضا الرحمن.