منذ النشأة الأولى للإنسان في الحياة والزمن هو العامل الأهم. لديه شعور قديم بأن الزمن يسير إلى الأمام ولا يرجع أبداً، وبالتالي يسابقه وإن أدركه فلن يسبقه، فالزمن لا يمكن اجتيازه إلا إلى العالم الآخر، فالإنسان إذا ما فقد إحساسه بالزمن، فذلك يعني أن حياته انتهت.

صحيح أن الزمن لا يمكن اجتيازه فعلياً، لكن (قصة الاجتياز) تكمن في القدرة على اختزال الزمن في حين أو إطالته في حين آخر، بحسب الحاجة التي تدعوه إلى ذلك. وعلى الرغم من أننا نعتقد دوماً أن الزمن يفرض علينا انتظاره، إلا أننا غالباً ما نفرضه على أنفسنا فنشعر بأنه يمتد بنا إذا ما كنا ننتظر، ونشعر بأنه يتقلص حين نكون في عجلة من أمرنا.

ثنائية الإنسان والزمن أبدية، يحاول الإنسان فيها كسب معركة غير متكافئة، ورغم ذلك يكسبها في كثير من الأحيان بفضل عقله الذي أتاح له أن يبتكر الوسائل ويتخذ القرارات الصائبة لاجتياز حاجز الزمن معنوياً. ربما يعتمد النجاح في اختزال الزمن على الإنسان نفسه، على الوسيلة التي يستفيد منها، وأحياناً يشعر الإنسان بمرارة الغياب نتيجة اعتقاده بتأخر وصول أمنية ما إليه، ولكن هي طبيعة الحياة، فبعض الأشياء نعتقد أنها تصل إلينا دون سعي إليها، وبعضها نعتقد أن السعي إليها قضى وقتاً طويلاً ولم تتحقق إلا متأخرة، وهنا يكون الوصول متأخراً خيرا من عدم الوصول.

أكد نيوتن أن الزمن مطلق، بينما جعله آينشتاين نسبيا بالنسبة للإنسان، وهناك الكثير ممن شككوا بهذه النظرية دون إمكانية الإتيان بدليل، ومهما يكن الأمر فشعور الفرد بالزمن مرتبط بحالته الشعورية، وكأنما نحن نتماهى مع مدّ وجزر الزمن، وبالتالي فالانتظار مرتبط بالإحساس بالسكون والثبات، وهنا يكون الفعل هو الفرصة التي تحقق اجتياز ذاك الحاجز الأبدي الذي تحاول الفيزياء اختراقه، لكنها لم تستطع ذلك بعد، مهما تحدث الفيزيائيون عن السفر في الفضاء بسرعة الضوء لإيقاف الزمن نهائيا.

قد يكون السفر من أكثر الأشياء التي تضع الإنسان على محك الزمن، وتشعره فعلاً بالسباق مع الحياة، فغالباً ما يشعر الإنسان أنه في تحدٍ حينما يرتبط الأمر بانتقاله من مكان إلى مكان عبر الزمن، فالوصول لا يتم إلا عبر بوابة الزمن.

هنا، في صالة (الانتظار)، أشاهد من يتحدث، ومن يقرأ كتابا، ومن يستمع لموسيقى، ومن يمارس الكتابة، كل هؤلاء يستثمرون أوقاتهم بعمل شيء ما اختاروه، وهم بذلك ينسون أو يتناسون هاجس الانتظار مخففين حدّته بالاستمتاع بالفعل، وفي المقابل من لا يفعل شيئاً مبتكراً، فهو الأسوأ حظاً، لأنه الأكثر شعوراً بـ"سيف الوقت" حين جعل نفسه أسيراً للانتظار بشكل ممل.

الكائنات الأخرى-غير الإنسان- ذات عقل غريزي جعلها لا تستجيب أبدا لتحدي الزمن إلا وفق إمكاناتها الفطرية، فهي تحاول استثمار كافة قواها البدنية، لكنها لن تستطيع ابتكار ما يساعدها على الخروج من عنق زجاجة الزمن، وهي بذلك بقيت أسيرة تكوينها الفطري.

الزمن حالة نعيشها بكل ما فيها من تفاصيل، وربما ليس لدى الإنسان هم لتجاوز الزمن فعليا لكنه لا يكف عن التفكير بذلك، فالعلم لن يتوقف عند الاكتشافات والاختراعات السابقة. إلا أن تجاوز الإنسان للحالة الشعورية الزمنية أمر مهم، فهو تجسيد للاجتياز بحد ذاته. لم يحاول الإنسان قديماً (حرق) الزمن ليزرع الأرض فيأكل، لكنه أحرق الغابة لاختزال الزمن الذي يفترض أن يقضيه في تقطيع أشجارها، وما يترتب على ذلك من جهد ووقت للراحة. هنا اختزل الإنسان القديم الزمن، لكنه في موضع آخر سعى لإبطائه، حين أدرك أن خلايا جسده تحترق (تتأكسد) فيتحول كغيره من المخلوقات إلى الفناء، فاهتدى إلى محاولة إبطاء زمن هذا التأكسد بوسيلة طبيعية، هي تلك النباتات الخضراء المحتوية على مواد مضادة للأكسدة، وهي النباتات التي سعى سابقاً للاستفادة منها!

إن حقيقة الزمن هي شعورنا به، والإنسان في النهاية ليس آلة خالية من المشاعر، بل هو كتلة من الانفعالات والدوافع: يشعر بالفرح والحزن، بالسخط والرضا، بالحضور والغياب... ولديه دوافع طبيعية للبقاء، فيسعى لتحقيق ذاته بالبحث عن الكمال تارة والبحث عن الخلود تارة أخرى، وفي كل هذه لا نستطيع إلا أن نقول: إن الزمن يكمن في التفاصيل.