تحدثت في مقالة سابقة عن وجود نوعين من الفساد في الوظيفة الحكومية، نوع يتعلق بصغار الموظفين والمتمثل في تسريع الإجراءات بشكل مخالف أو عدم القيام بها، والنوع الآخر يتعلق بكبار الموظفين والذي يتصل بعملية صنع القرار في الجهة الحكومية حيث يتكتل ممارسو الفساد على شكل مجموعات متضامنة داخل الهرم التنظيمي قد تشمل المستويات الإدارية العليا (مافيا).

وبالرغم من أن المسؤولية تقع على كبار الموظفين في حالات الفساد إلا أن الضحية في الغالب هم صغار الموظفين، أو بمعنى أصح موظفو الإدارة التنفيذية.

فكثير من حالات الفساد التي يتم التحقيق فيها، تكون نتيجتها تحميل كامل المسؤولية على الموظف الصغير أو التنفيذي، وتكون مبرراته في ذلك، أنه تم تنفيذ العمل بناءً على توجيهات المدير العام أو وكيل الوزارة (عبد المأمور)، وعندما يطلب منه إثبات ذلك، لا يجد إلا القول بأنها توجيهات شفوية! وعندما يواجه بالأسئلة لماذا لم يتم إثبات وتوثيق هذه التوجيهات كتابياً وفق الأنظمة والتعليمات؟ تكون إجابته بأنه تم تهديده بحرمانه من الترقية أو نقله إلى منطقة أخرى أو حرمانه من المكافآت والحوافز إن لم يتم تنفيذ هذا العمل.

وعند الرجوع إلى المستندات التي تتضمن توجيهات المسؤول في الإدارة العليا نجدها مذيلة بعبارة "لإجراء اللازم حسب الأنظمة والتعليمات"، في إشارة ضمنية لحماية نفسه من أية مسؤولية، فهو لم يتخذ قراراً، ولم يعط أي توجيه معين.

وقد يقول قائل إن الموظف الحكومي ليس له عذر في مخالفة الأنظمة والقوانين لمجرد انصياعه لتوجيهات مديره الشفوية، وليس هناك مبرر لخوفه من عدم حصوله على الترقية، وذلك لسبب بسيط وهو أن الترقية يستحقها نظاماً فهناك أنظمة الخدمة المدنية وهناك شروط واضحة للترقية وهناك معايير لتقويم الأداء الوظيفي، وإن لم يستطع فإن هناك جهات رقابية يلجأ إليها الموظف الحكومي لتقديم شكواه، ورغم وجاهة ومنطقية هذا السبب إلا أن المشكلة تكمن في استطاعة أصحاب النفوذ في التحايل على هذه القوانين وهذه المعايير بكل سهولة ويسر، فتصبح أداة للضغط على الموظف، ناهيك عن وجود سلسلة من المصالح تبدأ من المسؤول الأول في الجهة الحكومية، وتمر بالوكلاء ومديري العموم حتى تنتهي عند الموظف الصغير.

فالوكيل أو المدير يخشى على زوال منصبه إذ لم يتم تنفيذ هذه التعليمات لذلك يحاول قدر المستطاع فرض هذه التعليمات على موظفيه في إدارته بشتى الوسائل والطرق.

وإذا قدم الموظف شكواه إلى الجهات الرقابية، فسوف يتم التعامل معها بشكل وأساليب بيروقراطية، ومنها تشكيل لجان للتحقيق تكون في الغالب غير مستقلة، والتي سوف تختلق بعض المبررات النظامية والتي قد لا تكون ذات أهمية نسبية، لرفض هذه الشكوى، أو أنه سوف يتم الرجوع إلى تقارير تقويم الأداء الوظيفي، والتي بالطبع سوف تكون سيئة ومتدنية بناءً على توجيهات المسؤول، فمن سوف يراجع ويعطي مصداقية لهذه التقارير؟ ناهيك أنه في كثير من الأحيان يتم الرجوع للمسؤول لأخذ مرئياته حول القضية! ليكون الخصم والحكم في نفس الوقت.

وفي المقابل أيضاً نجد صورة أخرى لضحايا الفساد تتمثل في سوء الإدارة في بعض الجهات الحكومية، فنتيجةً لغياب أو عدم وضوح آليات وإجراءات العمل وضعف الرقابة الداخلية بالرغم من وجود إطار عام للأنظمة والقوانين، نجد الموظف يعمل باجتهاد شخصي منه، وعندما تقع المشكلة أو المخالفة، يتم تحميل كامل المسؤولية على الموظف المسكين، وأذكر في هذا الصدد قضية تم اكتشافها تتمثل في وجود عجز مالي كبير يصل إلى ملايين الريالات، على إثرها تم اتهام "أمين الصندوق" بالاختلاس، وتم تحميله كامل المسؤولية عن هذا العجز المالي، ومع مرور الوقت اتضح أن السبب يكمن في ضعف الرقابة الداخلية في الإدارة المالية، ومنها التأخير في إعداد القيود الدفترية إضافةً إلى وجود أخطاء محاسبية جوهرية، وضياع بعض المستندات، وعدم المطابقة مع الكشوفات المالية، وعدم إجراء الجرد الدوري على الصندوق، لتكون النتيجة أن العجز كان مستندياً، ولم يكن عجزاً فعلياً ولم يكن هناك اختلاس من الأساس، فكان الضحية أمين الصندوق.

إن الحديث عن صور وأشكال الفساد الإداري، يطول ويصعب الإلمام به من جميع الجوانب، وخاصةً فيما يتعلق بالمستضعفين من الموظفين، إلا أنني أجد من الضروري تسليط الضوء على هذه الظاهرة، وخاصةً بعد الانتقادات التي وجهت إلى الأجهزة الرقابية والمتمثلة في أنها تشغل نفسها في القضايا التي تتعلق في العادة بصغار الموظفين والذين ليس لهم نصير أو ظهير، وتترك قضايا كبار الموظفين الذين يمثلون مراكز النفوذ متمتعين بالسلطة والسطوة، وربما كانت هي أيضاً تؤدي دوراً في التعتيم على قضايا الفساد أو إعطائها المشروعية، خصوصاً وإن كان لأطراف فيها مصلحة.

وهذه الانتقادات في الحقيقة لم تأت من فراغ، فالمجتمع اليوم يشاهد في الوسائل الإعلامية في الدول الأكثر تقدماً، كيف أنها تبرز قضايا متورطا فيها كبار المسؤولين، ويقعون تحت طائلة النظام والقانون، وتمارس الأجهزة الرقابية دورها بحرية كبيرة، في الوقت الذي يندر فيه أن تتم مساءلة كبار الموظفين.

لذا فنحن بحاجة في الوقت الراهن إلى وجود مساءلة حقيقية وفعلية للجهات الحكومية، ليس من قبل الأجهزة الرقابية فحسب، ولكن من المجتمع بكافة أطيافه وفئاته، مع نشر ثقافة الواجبات والحقوق، وما هو لك وما هو عليك، كما حان الوقت أيضاً لنفهم ماذا تعني أنظمة الرقابة الداخلية ومكافحة الفساد.