توجه الجد مع حفيدته عبير إلى البقالة الصغيرة القريبة من منزلهم المتهالك، ووقف أمام البائع الهندي وقامته النحيلة ترتعش، طالبا منه أن يحضر له كراسة وعلبة ألوان ومجموعة دفاتر وقلم رصاص وممحاة وبراية ومسطرة وشرائط وردية وبكلات بيضاء و.. و.. لكن العامل قاطعه قائلا إن لديه فقط أقلام رصاص ودفاتر.. وحتى تلك لم تعجب عبير التي أشاحت بوجهها قائلة: هذه ليست مثل دفاتر رزان بنت جيراننا ولا تشبه أقلامها.. ثم سقطت دمعة صغيرة على ردائها القديم، فبلع الشيخ غصته وهو يتصنع ابتسامة مشوهة.. وقال بصوت مرتعش:

رزان يذهب أبوها للمكتبة، وهي بعيدة جدا كما تعلمين.. كما أن مقتنياتها غالية جدا.. وموعد «الضمان» لا زال بعيدا والمدارس ستبدأ بعد غد..!

لم تسمع عبير شيئا لأنها غادرت المكان، فسار خلفها بخطوات متهالكة، وهو يراقب مشيتها السريعة وتمتماتها الغاضبة التي تذكره بوالدها الراحل منذ عامين.. كان والد عبير شابا قوي الجسد يعمل في رعي الأغنام التي يملكها والده في قريتهم الجبلية الشاهقة، ولكنه كان يتعرض لنوبة شديدة من الصرع بين حين وحين، مما حرمه من إتمام دراسته، ومات بإحدى نوباتها وحيدا في الجبال..

كان النزول من تلك القرية لقرى تتمتع بالخدمات المتنوعة شاقا للغاية، لأنها تقع بعيدا في أسفل الوادي.. كما أن الحالة المادية الصعبة لجد عبير حائل آخر..

غير أن أحزان عبير وجدها تحولت إلى أفراح عندما علما أن معلمة عبير بالصف الأول ستكون المعلمة زينة جمعان..

واحتضنت الحفيدة جدها وهي تقول: يكفي يا جدي أن أرتدي مريولي فقط بعد غد..أما بقية الأشياء فقد اشترتها الأبلة..!!

تقضي المعلمة/ زينة الغامدي وقتا ممتعا في أروقة المكتبة وهي تختار الأدوات المدرسية وتفاضل بين الماركات والعلامات التجارية لتختار أجودها وإن غلا ثمنها، وتصعد إلى قريتها الجبلية محملة بكل ما تحتاجه الطالبات من أدوات ومستلزمات.. حيث تدرك صعوبة المنطقة وضيق ذات اليد لمعظم سكانها.. إضافة لقلة الخدمات بسبب الموقع الجغرافي الصعب.

تدرك عبير وجدها أنهما لن يعانيا أبدا في توفير المستلزمات الدراسية بأشكالها على مدى ثلاث سنوات مقبلة، هي المدة التي ستدرّسها فيها أبلة زينة في الصفوف الأولية.. وكم يزيح ذلك من هموم عن كاهلهما، وكاهل كثيرين غيرهما..

لا تنسى أبلة زينة كل يوم أن تدس مصروفا كافيا في جيبها، كي تستعين به عندما تصطف مع طالباتها أمام مقصف المدرسة، فتلتقط بنظرة خاطفة مَن نسيت مصروفها، أو من لا تملكه أصلا، وتدعم مَن كان مصروفها ناقصا، لتشتري ما طاب لها أسوة بزميلاتها..دون أن تُشعر أحدا بذلك.

تقضي أبلة زينة يومها كاملا بين طالباتها داخل حجرة الصف، تستقبلهن بابتسامتها المشرقة صباحا، تداعب هذه، وتصلح هندام هذه، تمنح هذه قلما جديدا، وتعطي تلك ممحاة نظيفة.. تمسك بيد هذه لتساعدها على المرور، تمسك بيد تلك لتعينها على الكتابة.. تزيح بيديها الطاولات لتتيح لهن فرصة الخروج من الفصل، وكأنها تزيح لهن عقبات الطريق الطويل الذي تراه وحدها دونهن، في نهاية اليوم الطويل الشاق لا تنطلق زينة كالبرق لترتدي عباءتها وتخرج من المدرسة بعد نهار طويل عامر بالكفاح والعطاء والتعب، ولكنها تصفُّ طالباتها لتصلي معهن صلاة الظهر داخل الفصل، لتغرس في نفوسهن الغضة قيمة الارتباط بالله التي تحيل المساحات الجرداء من الحياة المضنية إلى حدائق من نور..

تودّعهن بذكر الله، وكأنها تأخذ منهن وعدا أن يحافظن على الصلاة حتى في غيابها..

تمر أجيال وراء أجيال، وأبلة زينة لم تطوِ سجادتها بعد منذ 27 عاما.. وجبينها الطاهر لا زال عبر السنوات يلامس الأرض مرة بعد مرة شكرا لله تعالى كلما سمعت إحدى الطالبات تعترف لها أنها صنعت مستقبلها، أو غيرت مسار حياتها للأجمل.. وتردد في كل مرة:

«رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير».