أمور كثيرة تلفت النظر وتستدعي التأمل والاعتبار في انتفاضة الشعب التونسي. تسارع وتيرة الأحداث وتصاعدها منذ يوم 17 ديسمبر الماضي حتى اليوم، في أقل من شهر تبدل وجه تونس السياسي، هذا زمن التواصل والاتصال والمعرفة المتاحة المفتوحة لكل أحد، المواطن العاطل عن العمل الشهيد محمد البوعزيزي أطلق الشرارة فاندلعت النار التي أطاحت برئيس الدولة بسرعة لم تكن في الحسبان مطلقا، سقطت نظرية القبضة الحديدية للأمن في غضون أسابيع قليلة، كانت تونس مضرب المثل في هذه القبضة القامعة، لكنها تبخرت أمام نار الحرية، القمع لا يحكم الشعوب مهما تسيدت سطوته، العدل والحرية هما سيدا الموقف في كل زمان ومكان.

الخطابات الثلاثة للرئيس السابق بن علي التي كان آخرها مساء الخميس الماضي تشرح ما قلته أعلاه، قدم الرئيس التنازل تلو الآخر، ما أصر عليه طيلة ثلاث وعشرين سنة من قمع ونفوذ عائلي وفساد، تنازل عنه دفعة واحدة وفي أقل من شهر، لكن لم يعد هناك مجال للتصديق، كان يتنازل عن سطوته والجماهير تزحف نحوه شخصيا، والفرق واضح جلي بين أن تعطي الناس حقوقهم برضا واختيار وفي زمن السعة، وبين أن ينتزع الناس حقوقهم انتزاعا، في الحال الأولى سيقولون لك شكرا، وقد يتنازلون عن بعضها مؤقتا ويمنحونك وقتا للتصحيح والوفاء، وفي الثانية سيأخذونها عنوة ويقولون لك سحقا ومحقا، فإن نجوت من قبضتهم وسخطهم فذاك غاية المنى.

قراءة الحدث في تونس تتطلب وقتا طويلا وجهدا تأمليا وتحليليا كبيرا، ابتداء من الشرارة التي أطلقته وانتهاء بمستقبل تونس السياسي الذي لم يتضح منه حتى الآن سوى قوة الدستور، الذي نقل مسؤوليات الرئيس إلى الوزير الأول، وخلال 12 ساعة صححت الجماهير الغاضبة هذا التجاوز الدستوري فتمت العودة إلى المادة 57 التي تؤسس لمستقبل واضح قريب.

انتفاضة الشعب التونسي تؤسس لمرحلة جديدة في وطنهم لن يجرؤ معها أحد من الساسة القادمين أن يتجاهل قيم العدل والحرية، ولن يستطيع أن يقفز على الدستور ويحيله إلى نصوص جامدة يسيلها متى شاء ويجمدها متى شاء، سيضع في حسبانه أن الدستور ملك للشعب وليس للرئيس.

إن ما حدث في تونس يحتاج وقفة متأملة لكل مسؤول في الوطن العربي ابتداء من مديري الشركات والمؤسسات والإدارات وانتهاء برؤساء الدول، حقوق الناس لا مجال لغمطها، وكراماتهم لا فرصة لانتهاكها، وحرياتهم لا مناص من إطلاقها أو انتزاعها عنوة. التاريخ لا يعيد نفسه، فكل حدث فيه لا يشبه الآخر فيما مضى، ولن يماثله في المستقبل، لكن هناك قواسم مشتركة ومحاور أساسية تدور حولها الأحداث، لعل أهمها في مثل حال تونس العدل والحرية، ولعل قاعدتها الذهبية في كل عصر ومصر تلك المقولة الخالدة التي لا يعرف عمقها وعظمتها اليوم أكثر من "بن علي"، إنها مقولة الهرمزان: عدلت فأمنت فنمت يا عمر.