"ألقى مفاتيحه" للمرة الأخيرة، واستراح.. مد يده وراح يحرك مزلاج "بوابة الريح" إيذانا بالرحيل، ومضى في انهمار "مطر مكة" يودّعنا، يلوّح لخواطرنا المكسورة على فراقه بانهمار "تغريبة القوافل والمطر"، وحياة لم تلو إلا على شعر سال من "شهار" واستقر في بطن مكة وبطحائها، ليزهر إبداعاً لا يشيخ وإن شاخت السنون، وتعب القلب من الركض في بيداء شيمة رملها خطف ورد القصيدة، وعنفوان "النشيدة" من فمه المترع بالطيب والأمانيّ والوطن.
محمد الثبيتي.. وآه على مرارات فقدك يا "أبا يوس" كما أحبَبْتَ أن أكنيك، محاكاة لبيتك الشهير "ولا أنت أوتيت حكمة لقما.. ولا هنّ أوتين فتنة يوس".
"سيد البيد".. نعم لقد آلامنا رحيلك الصامت من حياة ملأتها بضجيج القوافي، فأدرت الشعر في رؤوسنا باقتدار، وعلّمتنا كيف أن قهوة حرفك "المرة المستطابة" لا تضاهيها قهوة، وأن لـ"مهباجك الشعري" أسراراً لا يمكن اختراقها.
سامحنا أيها الشاعر الكبير، فنحن لم نوفك حقك، ولم نرعاك كما يجب، سامحنا حين تلكأنا في استكمالك لعلاجك، سامحنا إن رحلت وأنت في ضائقة، سامحنا إن لم نلتفت إليك إلا في الوقت الضائع، وبعد أن ثار قلبك عليك قائلا "كفى يا محمد لقد تعبت"، سامح جهلنا بما تعنيه كلمة "مبدع" و "رمز"، سامحنا طيبتنا ونحن لا نعرف ما المعنى الحقيقي لأن يكون الفرد من النخبة!
ولا تسامح لا تسامح لا تسامح أولئك الذين طالما "تمسّحوا" بك وبشعرك، وفي "المقبرة" التي لم تبعد عن "نفاقهم" سوى بضعة كيلو مترات؛ لم يحضر أحد منهم، بل "وتمسحوا" بك في مماتك، وتسابقوا إلى الفضائيات يدّعون وصلاً بك، فيتحدث من ولّي ناديا أدبيا عن شعرك، وهو لم يدعك لأمسية واحدة يتيمة، ويبعث آخر من مكة بقصيدة رثاء فيك لإحدى الصحف، بينما لم يكلف نفسه حضور دفنك، وآخر يتحجج بـ"سيول مكة" التي منعته عنك، لكنها "سيول الأخلاق" في واقع ثقافي نفعي مؤلم.
"سلام عليكَ
سلام عليكْ
سلام عليك فهذا دم الراحلين كتاب
من الوجد نتلوه
تلك مواطئهم في الرمالْ
وتلك مدافن أسرارهم حينما ذللت
لهم الأرض فاستبقوا أيهم يرِدُ الماءْ ".