بدا وهو يحث الخطى، بثقة وأناة، باتجاه مجموعة من الشباب، وكأنه قادم من فضاء المجهول. يلبس ثوبا قصيرا، وله لحية كثيفة، توحي بأنه من أهل الالتزام.

مجموعة الشباب التي توجه لها "الشيخ علي" كانت تفترش الأرض، يغلفها هدوء المساء في إحدى مناطق السعودية، وبينهم شاب يحتضن آلة العود.

انقض "الشيخ علي" على الشاب، وانتزع "العود" من بين يديه في غلظة، وألقى به على الأرض.

ثم رفع الشيخ سبابته في وجوه الشباب وتقاسيم وجهه تشي بالعتاب والتهديد لهم، ومن خلفه قطع العود تتناثر على الأرض.

ما جرى بين الشيخ والشباب هي أحداث أحد المقاطع المصورة على موقع الفيديو الشهير الـ"يوتيوب"، الذي يتيح تحميل المقاطع المرئية والصوتية وتبادلها على شبكة الإنترنت.

وبالرغم من أن المقطع جاء تحت عنوان "الشيخ علي أسد الهيئة"، إلا أنه لا يوجد  دليل واحد يشير إلى أن "الشيخ علي" هو فعلا من أفراد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!.

فضاء افتراضي حر

ربما يتبادل البعض مقطع "الشيخ علي" محاولا التأليب على مبدأ الأمر بالمعروف. وربما يتبادل المقطع البعض ممن يروم محاربة المنكرات، بحسب تفسيره.

ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها هي، أن موقع "يوتيوب" بات من ضمن أهم المواقع الافتراضية التي يتحرك فيها أفراد المجتمع السعودي بكافة شرائحهم وفئاتهم، لمناقشة ورصد قضاياهم، وأفكارهم، وتصوراتهم، وصراعاتهم، إضافة إلى كونه بوابة ترفيهية يبحث روادها أيضا عن التسلية وقتل الوقت ومتابعة الجديد.

خالد يسلم، 28 عاما، أحد المتابعين بشغف لـ "يوتيوب"، ويهتم برصد الجديد في الموقع، ونقل روابطه إلى صفحته في "فيسبوك" و "تويتر"، يقول "يوتيوب أضحى نافذة العالم الواقعي. تستطيع من خلاله أن ترى العالم من جميع وجهات النظر، الشرقية و الغربية، وتتفاعل معها".


بين التدقيق والترصد

قبل أكثر من سنة، ثار جدل في الأوساط الإعلامية حول فتوى نسبت لأحد الدعاة، سميت حينها بفتوى قتل "ميكي ماوس".

ساهم "يوتيوب" في نشر مقطع الداعية، وخلق جدلا من خلال التعليقات، موازيا للجدل القائم آنذاك في الصحف والقنوات الفضائية والمنتديات على الإنترنت، وهو ما يؤكد ما ذهب إليه "يسلم" من كون الـ"يوتيوب" بات انعكاسا للواقع.

من جهته، أستاذ الإعلام بجامعة الملك عبد العزيز الدكتور سعود كاتب، يسلط الضوء على الموضوع من زاوية جديدة.

إذ يرى أن الموقع يساهم في خلق فضاء من الموضوعية والتدقيق، ويتيح للمشاهد تكوين الرأي بحيادية، بعيداً عن التوجيه والانحياز لوجهة نظر، أو تأويل واحد دون غيره.

يقول كاتب معلقا على الجدل الذي دار في المشهد الإعلامي عن الفتوى، "عندما زرت الموقع للاطلاع على فتوى الشيخ بخصوص ميكي ماوس، لاحظت أن الإعلام مارس لؤما في تفسير كلام الشيخ، وأخرج الموضوع عن سياقه الموضوعي".

ويضيف "اليوم لم تعد تستطيع أن تحتكر التأويل أو تفسير الأمور، لأنه بإمكان الفرد الاطلاع بنفسه على الموضوع المثار، واتخاذ حكم موضوعي لما يشاهده، بعيدا عن الترصد والتصيد".

"يوتيوب" وسيول جدة

لم يخذل الـ"يوتيوب" متابعيه رواده، عندما اجتاحت السيول جدة في ذي الحجة الماضي.

 بل يرى الدكتور كاتب أن "المنعطف الأهم" في مسيرة الموقع بالنسبة للسعوديين جاءت مع لحظة السيول. “يوتيوب كان البطل والنجم الذي سحب البساط من تحت أقدام وسائل الإعلام، وبتنا نرى صحافة المواطن من خلال المقاطع التي رصدت الحدث بفعالية".

في حين يضيف خالد يسلم أن "يوتيوب وغيره من مواقع الإعلام الجديد، مثل فيسبوك، وتويتر، لها مصداقية تفوق بكثير مصداقية وسائل الإعلام التقليدية".

كما لا يحصر "يسلم" أثر الموقع في الرصد الموضوعي وحسب، بل يرى أن التفاعل بين مستخدميه يشكل لغة تتفوق على لغة "الرسميات"، بحسب قوله.

ويضع لتوضيح فكرته مثالا من وحي الموقع. "يسلم"، الذي كان أحد الشباب المتطوع لخدمة المتضررين من سيول جدة، يقول "بعد أن انتهت فترة التطوع لخدمة المتضررين، قام أحد مستخدمي الموقع بتصميم فلم قصير بعنوان (القلب الحي) لشكر المتطوعين ودعمهم معنويا"، مضيفا "جاء الفلم أبلغ من أي ثناء رسمي، وأصدق من ثناء الإعلام العام والصحف. وجعلنا نشعر بالفخر لما قمنا به من واجب اجتماعي".

القنوات الخاصة

عبد الرحمن صندقجي، طالب في السنة الخامسة بقسم الهندسة الصناعية في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وصاحب قناة شخصية على موقع "يوتيوب" تحت عنوان "كشكول"، أنشأها قبل عام، هو الذي قام بتأليف وإخراج فلم "القلب الحي" الذي تحدث عنه "يسلم".

يقول صندقجي عن باعثه في نشر أعماله في الموقع، "أصبح استخدام يوتيوب في العالم العربي ينقسم ما بين الاستخدام الفعّال والمفيد والاستخدام السيئ، ومع الأسف أصبح للاستخدام السيئ نصيب الأسد، فالمقاطع التي تعرض المشاهد الساخرة و الهزلية التي لا تبين صورة طيبة عنا تكاد تشغل اهتمام معظم الشباب، حيث يتبين هذا في عدد المشاهدات الضخمة التي تحصدها، لذلك أسعى من خلال قناتي الخاصة بنشر خواطري، ومواهبي التصويرية والإخراجية على الموقع، بطريقة مشوقة وخفيفة على القلب، تحض على المعاني السامية و الطيبة".

في حين يتوقع الباحث والكاتب الصحفي عبد الله حميد الدين، تناميا مستقبليا للقنوات الشخصية، وأنها ستنافس الإعلام التقليدي.

 يقول حميد الدين "إذا نظرنا إلى كلفة إعداد وإدارة قناة شخصية على اليوتيوب مقارنة بتكلفة ساعة فضائية واحدة، فإنه يمكن تصور انتشار هذه القنوات الشخصية وانتشار الدعاية لها.

والعائق الأساسي في تصوري هو سرعة الإنترنت، وإذا ما تم تجاوز هذا فإن الأمر سيتسارع باتجاه القنوات الشخصية".

حميد الدين هو أحد المستخدمين للموقع، وكانت له تجربة في عرض محاضراته الثقافية من خلاله.

يقول حميد الدين "تجربتي محدودة، وضعت بعض محاضراتي، ومع ذلك فقد لمست بعض قوة هذا الوسيط، الذي يسمح لأي صاحب فكرة بطرح أفكاره بالصوت والصورة على الملأ بمجرد امتلاك آلة تصوير"، ويتابع قائلا "من يريد أن يبث نفسه أو أفكاره من خلال هذا الوسيط، سيجد مساحة لا محدودة، لا تتطلب تقنية عالية، ولا إعدادات فنية معقدة، ولا يحتاج فيها إلى موافقات رسمية، ولا إلى اقتناع أصحاب البرامج التقليدية بقيمة المادة".

منافسٌ للفضائيات

 بسبب "يوتيوب"، بات ما يدور في العالم يبعد عنا مقدار "كبسة زر". إن أردت الموسيقى أو الفنون، أو مستجدات الأحداث السياسية والرياضية والاجتماعية، أو أردت الاطلاع على أخر  المقابلات التلفزيونية لهذه الشخصية أو تلك، فأغلب الظن أن الموقع سيوفرها.

 هذا الوضع الجديد ساهم في مضاعفة المتاعب التي تواجهها القنوات الفضائية. فمشاهد اليوم لم يعد ملزما بمتابعة برنامجه المفضل في وقته المحدد.

وإنما باستطاعته أن يشاهد البرنامج في الوقت الذي يشاء من خلال الموقع، الأمر الذي جعل القنوات الفضائية تحاول التعامل مع الواقع الجديد من خلال إنشاء قنواتها الخاصة للاستفادة من هذه الوسيلة.

كما أن معظم الصحف الأجنبية، وقليل من الصحف العربية مثل صحيفة النهار اللبنانية، تسعى لتقديم بعض موادها، وتتيح لمحرريها التعليق على الأحداث.

فيما تظل الصحف السعودية بعيدة، حتى اللحظة، عن إنشاء قنواتها الخاصة، وهو بحسب كاتب، يجعلها تخسر وسيلة هامة للانتشار.

تعليقات متباينة

لا يختلف "يوتيوب" كثيرا عن غيره من المواقع الافتراضية التي تتيح النقاش الحر، إن لم يتفوق عليها في كونه لا يمارس رقابة على التعليقات التي يتركها مستخدموه تعليقا على المقاطع المشاهدة.

بل إن الراصد للتعليقات المبثوثة فيه، يجد، بعض الأحيان، انفلاتا في مستوى النقاش ينحدر إلى مدارك سحيقة من القذف والسباب والانتقاص من أبناء المناطق المختلفة، أو من جنسيات معينة، خصوصا عندما يكون المقطع المشاهد أو المسموع متماهيا مع الجدل أو الصراعات الاجتماعية والفكرية والثقافية في المجتمع.

ويهتم يسلم بتتبع التعليقات على الموقع، ورصدها من خلال المزايا الإحصائية التي يوفرها الموقع مثل عدد المشاهدات، ومن أي المناطق جاءت، ويقول "هذا مؤشر فعال بالنسبة لي، عندما أرى تعليقات المشاهدين وربطهم للنقاشات الفكرية أوالمذهبية أو العرقية أو القبلية، وهو ما ينم في بعض الأحيان عن جهل في المشاهدة والتحليل من المستخدمين". الدكتور سعود كاتب يشير إلى أن كثيرا من التعليقات " عنصرية ومتطرفة"، مضيفا "لا أعرف أي تفسير علمي لأسبابها، ولكن أتمنى أن نتجاوزها بمرور الزمن".