في أمسية شعرية أبهاوية سار من أمامي كاشتعال الضحى الممراح وأخذ مكانه في المنصة، رمقته بذهول وبفطنته الواعية قرأ ما يدور في مخيلتي وأشار ضاحكاً إلى رأسه. هنا علمتُ أن سيد البيد سيقرأ شعره دون ورقات كما يفعل الآخرون، قدمته هكذا: السادة الحضور ها هو محمد بن عواض الثبيتي يتمدد صوته كخارطة الأرض، وينسل غناؤه من نوافذ الليل كرائحة العطر المحمول فوق كفوف الريح، يصعد في شعره كالزلزال في العالم المهجور، ويضرب بنصله الشعري أحشاء الفراغ وغياهب الظن وفصول الرمال، مولع بهتك المرايا، ونطف الحدس، وهوادج السأم رغم غيابه الذي طال فما زال يحمل صولجانه الشعري على طرق القوافل والمطر، يلوح في أقصى الظلام كالبرق، يقطر زيتاً ومصباحاً، وينبت أقماراً وشامات بياض، هو سيد البيد الشعري حين أناخ له الشعر أعناقه فابتاع شيئاً من الخبز والتمر والماء والعنب الرازقي الذي جاء مقتحماً موسمه. لم يلتفت أبو يوسف لما قلته ولم يعد يطربه مدح أو قدح، كان همه أن يخرج ما في صدره من رعود الشعر المنسربة من رئتيه كما طيور الأرق ودمدمات الريح. انطلق بصوته الأسطوري كالشجر المضاء، ينثر عطر القرنفل على معاطف الليل، وتنمو لغته العبقرية على وجوه الحاضرين، فتتبرعم كالأيام المسدلة على ردهات الزمن. إنه قنطرة الشعر وإعصاره الخرافي حتى ولو سقط في إناء المغيب كنجمة فوق سياج فمائدته الشعرية حية كماء النبع الذي لا يموت، وكحسيس البحر الذي لا يجف، وكرعشة الغناء في فم العصافير، هو عصي على النسيان والغياب لأنه موصول بألوان العشايا، ومجدول بعرق الشمس، ومصبوغ بدماء الطفولة، يقول شاعر العصر وعصبه ورحيقه محمد بن عواض الثبيتي عن تجربته قبل 30 عاماً: (منذ مدة طويلة وأنا أورط نفسي في اقتحام مجاهل الشعر وذرع متاهاته المسحورة، أحاول هز أفنانه اللدنة لتمطر لي الورد والفراشات والسوسن والأصداف وتمنحني الإكسير المتوهج الذي يهب الحب والحياة)، كان أبو يوسف قاسياً على شعره متربصاً به حين يقول: (مزقت من أوراقي الكثير وأحرقت الكثير، وخنقت في صدري ولادات فجة ينقصها الانصهار الكامل في عمق الجرح). ترى هل تنبأ محمد بمشهد موته حين يقول: (وفي كل يوم أموت على الطرقات ويفترس الجدري ملامح عشقي ويمسخ لوني كأني حصاني لم يعزف الموت لحناً فريداً وحرباً عوان) ويقول في مرثية الملك فيصل: (ولكنها الأقدار تجري بحكمة ويملي بما فيها كتاب مقدر، ففي ذمة الباري إلى ظل جنة مع الصفوة الأبرار تجزى وتشكر، تحفك من جند السماء ملائك ويؤويك فردوس ويرويك كوثر). رحم الله محمد الثبيتي وغشيته رحمة المولى التي وسعت كل شيء.