قبل أشهر قليلة، أطلقت مجموعة (كرييتف سينما) السعودية فيلماً وثائقياً قصيراً بعنوان (التطوّع الأخير) تنتقد فيه بحدّة طبيعة الأنشطة التطوعية التي راجت مؤخراً في المجتمع السعودي بطابع كوميدي ساخر يحسب للقائمين عليه طرافته وظرفه، كما يحسب لهم قبل ذلك دخولهم الريّادي في عالم الأفلام الوثائقية القصيرة رغم ما تعانيه أغلب الفنون السينمائية في السعودية من تشنيع وتضييق. هذه الريادة، مردوفة بمواهب القائمين على الفيلم وجدّيتهم، أدّت إلى رواج الفيلم وانتشاره، ليتحدث بلسان الكثيرين ويزعج أسماع الكثيرين أيضاً. ذلك أن محتواه جدليّ، والأفلام الوثائقية بطبيعة الحال يُراد بها أن تطوف حول الجدليّات، لأنها تجذب الاهتمام وتستحق البحث، ثم تتباين بعد ذلك طرائق التناول لهذه الجدليّات بين فيلم يغلّب رأياً ويدحض آخر، وفيلم يسعى لطرح الآراء المتباينة بحيادية. وهذه السمة الأخيرة لم تكن موجودة في فيلم التطوع الأخير للأسف، ولعل الطابع الكوميدي الساخر هو ما مال بالقائمين عليه جهة تمكين السخرية بدلاً من تأسيس الحياد.

الفيلم، إنتاجاً وإخراجاً وتمثيلاً، يتجاوز نطاق هذه المقالة، وما يظل في نطاقها هو محتواه النقديّ، فهو يحمل رؤية سلبية للتطوع تمّ التعبير عنها بطريقتين: الأولى بالتشكيك في مقاصد المتطوعين (استعراض، غزل، سعي وراء المناصب،..). والثانية، بانتقاد الظواهر المصاحبة للأنشطة التطوعيّة (اختلاط، ملابس غربية... إلخ). وبالتأكيد لم يتم عرض أي أمثلة محددة للمجموعات التطوعية محل النقد، وبالتالي لم يكن بالإمكان تقديم أية أدلّة على فساد تطوعهم وتهافت نتائجه. هكذا يكون الفيلم مقتصراً على مجموعة آراء شخصية جداً تعكس وجهات نظر القائمين عليه، فلا تملك مقومات رؤية شعبية يمكن الاعتماد على عمومياتها لتشكل ظاهرة، ولا تحمل عمقاً كافياً يمكن التمحيص في منهجيتها لتشكل نقداً. وبذلك افتقد الفيلم أفقيّة الظاهرة وعمودية النقد، والتي كان أحدها فقط خليقاً بأن يتمّم هذا الجهد الإبداعيّ الجميل.

وكما جاء على لسان أحد القائمين على الفيلم أن مفهوم التطوع حديثٌ على مجتمعنا، فلعلنا نتفق أن آليات نقده وتقويمه حديثةٌ أيضاً. فإن أخفّق المتطوعون في إتقان تطوعهم فلقد أخفق نقّادهم في قياس هذا الإخفاق، سواءً في تخرّص دوافعه أو في استقراء نتائجه. هذا مع الأخذ في الاعتبار أن هذا (الإخفاق) ما يزال فرضيّة شخصية معلّقة تحتاج إلى إثبات. هذا القصور في طرح المشكلة وأبعادها والرؤى وتنوعها بالحد الأدنى من المنهجية لا يجعل الفيلم مؤهلاً لأن يصنف كفيلم وثائقي قصير بما أن محتواه صار أقرب إلى الكوميديا الارتجالية. هذا التصنيف يقطع دابر الجدل، لأن كوميديا الارتجال لا تشترط منهجاً ولا صفة ولا تهدف سوى للإضحاك، ولكن إن ظلّ الفيلم مصنفاً كوثائقيّ نقديّ فأحرى به أن يتعرض للنقد أيضاً.

مآخذ مجموعة (كرييتف سينما) على التطوع تبدو محلية من حيث إنها تنتقد التطوع (المحلي) باستخدام معايير وقيم (محلية)، ولكن في حقيقة الأمر أن بعض مآخذهم هذه عالمية الطابع (أو كانت عالمية)، فاتهام الأنشطة التطوعية بأنها تحمل جانباً تسويقياً له علاقة بتحسين صورة الشخص المشارك أو المؤسسة الراعية ليس جديداً، بل لطالما ضجّت به الصحف وطافت به الركبان وأتّهم به المتطوّعون، ولكن التجربة التطوّعية نضجت عالمياً إلى حد لم يعد معه الجانب التسويقي تهمة يُشنّع على مرتكبها، بل سمة طبيعية مصاحبة للعمل التطوعيّ (في حدود قانونية وسياسية معينة). هكذا لم يعد أحد يسأل آل جور عما إذا كان اهتمامه التطوعيّ بالبيئة له علاقة بطموحاته الرئاسية، مثلما لا يسألون بيل جيتس عما إذا كانت محاربته للملاريا في أفريقيا محاولة لتنظيف سمعة مايكروسوفت الملطّخة بالممارسات الاحتكارية الجشعة. في نهاية المطاف، نال آل جور جائزة نوبل لدوره الكبير في رفع الوعي البيئي على مستوى العالم، بينما أنقذت جهود بيل جيتس آلاف الأرواح من الموت في القارة الأفريقية. تجاوز العالم المعايير غير المفيدة وتمسك بمعيار حاسم وحيد لتقويم العمل التطوعي وهو (إحداث الفرق)، فإن نجح النشاط التطوعي في جعل العالم مكاناً أفضل للعيش (ولو بشكل طفيف) فلا يهم إذا كان المتطوع قد قام بذلك لتحقيق مكتسب شخصي أو لإجابة وازعٍ إنسانيّ، فهذه متغيرات شخصية خارج المعادلة تماماً ولا تؤثر في نتائجها.

ما تبقى من المآخذ المحلية للقائمين على الفيلم ضد التطوع يكمن في الممارسات (الفرعية) المصاحبة للتطوع، والتي اتخّذها القائمون عليه بشكل طرواديّ كمدخل لنسف الممارسة (الأصلية). من الواضح أن أغلب المشاركين في الفيلم يحملون عداءً تقليدياً تجاه ممارسات تعارف المجتمع ثقافياً على انتقاصها مثل: الاختلاط، والتأنّق، والتغريب. وقد أخذ القائمون على الفيلم العمل التطوعي (وهو الأصل) بجريرة الأفعال المصاحبة له (وهي الفروع)، وهذا خطأ أساسي ينقض أي مقاربة نقدية. هذا إذا افترضنا جدلاً أن هذه الممارسات المصاحبة ساقطة أخلاقياً، وإن بدت كذلك من وجهة نظر فئة ما، من مجتمع ما، في مرحلة ما من عمره الحضاري. مثلما أن مجتمعات أخرى كانت تراها كذلك ثم تجاوزت تلك النظرة تدريجياً.

غاب عن القائمين على الفيلم تنوع مشارب الناس. فمثلما أنهم يأكلون بطرق مختلفة، ويعملون بطرق مختلفة، فإنهم أيضاً (يتطوعون) بطرق مختلفة. وسواءً كان التطوع يأتي على شكل نشاط إعلامي في مول فاخر أو على شكل صدقاتٍ سرّية في قرية نائية، فإن محاولة استقصاء الدافع وراء العمل التطوعي في الحالتين هي محاولة غير نافعة ولن تؤدي سوى إلى تكريس (شكل) التطوع وتغييب (مضمونه). كان الأجدر بالمشاركين في الفيلم، مع احترامي لجهدهم ونيّاتهم الطيبة، أن يتفقوا أولاً على معيار يمكن تعميمه عالمياً ومحلياً لقياس قيمة العمل التطوعيّ مثل: (حجم الأثر الإيجابي نسبةً إلى الموارد المتاحة)، ثم عرض الجهود التطوعية حالةً حالةً على هذا المعيار. عليهم أن يفصلوا تماماً بين (الشكل) و (المضمون) حتى لا تتأثر بهما مصداقيتهم النقدية، وعليهم أيضاً أن يتجاوزوا مرحلة قراءة النيّات، ليسوا لأنهم عاجزين عن قراءتها بذكائهم الاجتماعي، ولكن لأن قراءتها صواباً أو خطأ لا تخدم القضية الأساسية في النهاية وهي: العمل التطوعيّ.

إذا أسفر جهد الشاب عن فائدة ملموسة لمجتمعه فلا يعنينا في النهاية ما يجري في صفحته على الفيسبوك، مثلما لا يعنينا أبداً تاريخه العاطفيّ. فهذا بحد ذاته تدخّل سافر في خصوصية المرء وحريته. وربّ شابٍ يتطوّع بملابس غربية ونيّات (غزلية)، ولكن عمله التطوعي في النهاية يسفر عن نتائج إيجابية جداً. (مثال: زيادة الوعي بأمراض شائعة وصامتة)، وربّ شابٍ يتطوع بثوب وغترة، وفي قرية لا يسمع عنه فيها أحد، ثم يسفر عمله عن نتائج سلبية (مثال: تسرّب التبرعات لأيدي إرهابية). كلا الشابين (تطوّع) بمضمون واحد (نفع المجتمع) وبشكلين مختلفين (جينز/ثوب)، وخرجا بنتائج متعاكسة (توعية/إرهاب). ولكننا إذا استخدمنا المنطق الذي طبّقه المشاركون في الفيلم على الحالتين، لخرجنا بنتيجة كارثية يتم من خلالها تقويم الأعمال التطوعيّة على أساس (شكليّ) مقبول محلياً، وليس على أساس (ضمنيّ) نافع اجتماعياً.