في ظل الأحداث التي تمر بها بعض الدول العربية مثل تونس ومصر كحالتين مستقلتين، ثم لبنان ولكن بوجه آخر، يدور في الأذهان سؤال يتكرر كثيرا في هذا الوقت هو: لماذا تتحول الكثير من وسائل التعبير المعروفة مثل المظاهرات في الدول العربية ودول العالم الثالث - إن صحت التسمية - إلى أعمال عنف قد تصل إلى القتل، في الوقت الذي لا نشاهد ذلك في كثير من المظاهرات التي تحدث بشكل شبه يومي في دول العالم الأخرى، وخصوصا تلك التي تقوم على التعددية السياسية والفكرية؟. ولماذا يسهل "اختطاف" أي وسيلة تعبير يفترض بها أن تكون سلمية من قبل جماعات قد تكون إقصائية في فكرها أشد من النظام السياسي الذي تناوئه، وبالتالي يتحول التعبير عن الرأي إلى حرب عصابات بين عدة أطراف؟.

بالتأكيد أن الإجابة الدقيقة عن هذه الأسئلة لن تأتي إلا بدراسات اجتماعية وقانونية متأنية ومستقلة، ولكن يمكن أن نقرأ الظاهرة من خلال الواقع الثقافي والاجتماعي الذي يشكل تفكير وسلوك المجتمع الذي يمثل هؤلاء الأشخاص المعبرون عن رأيهم خلاصته. فعندما ننظر إلى مناهج التعليم من الأساسي وحتى الجامعي في معظم الدول العربية، نجدها تكاد تخلو من التطرق لما يبني ثقافة سياسية سليمة في النشء، تبصره بما له من حقوق وما عليه من واجبات، بل إنه حتى في الدول العربية التي تتشدق بتاريخ في "النضال السياسي"، لا تجد منهجا دراسيا، يزرع في الفرد ثقافة سياسية سليمة. وأقصد بـ"سليمة" تلك الثقافة التي تجعل الشخص يعبر عن رأيه بشكل حر، وقرار مستقل ينبع من ذاته لا من شعارات الآخرين أو تحت ألويتهم، وفي ذات الوقت يحترم مقدرات الوطن ومنجزاته، ويضعها في كفة بعيدة، عن معارضته لأشخاص في النظام السياسي، ليسوا في الواقع هم "الوطن"، بقدر ما هم أشخاص قدر لهم أن وصلوا إلى مناصب صنع القرار.

فغياب الاستقلال الفكري للشخص، وعدم اكتسابه لهذه المهارة الفكرية في مراحل التعليم المختلفة، بسبب تغييب المناهج التعليمية - عنوة - لمبادئ ونظريات الثقافة السياسية والتعبير الحر، سهلا مهمة الحركات الأيديولوجية (اليمينية واليسارية) ذات الأهداف الخاصة، لتحكم سيطرتها على عقول الكثير من الشباب العرب، وبالتالي تقودهم كما تشاء تحت شعارات رنانة وجاذبة، ليصبحوا أداة تخريب أوطان بدلا من أن يكونوا أدوات إصلاح.

إذن فالمشكلة تتحملها في المقام الأول السياسات التعليمية والثقافية العقيمة والمترددة تجاه مفهوم الفعل السياسي، التي ترسخت في الأذهان منذ عقود طويلة، ولم يدرك من وضعها أنها قد تكون السبب الأول في عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي في العالم العربي.