عكس الكثيرين ممن لا يعرفون كيف توارت أحلامهم في زحمة الحياة فإنني أعرف بالضبط ماذا حدث لأحلامي.. لقد تم اصطيادها. وعكس آخرين ممن يحملون مسؤولية اغتيال أحلامهم لأطراف كثيرة فإنني اتهم امرأة واحدة اغتالت كل أحلامي: معلمتي سارة.
منذ أن فتحت عيني على هذه الدنيا والمعاطف البيضاء الطويلة تلهمني.. منذ السادسة من عمري وأنا أمشي خلف الأطباء والطبيبات كالمسحورة، لقد كانوا يثيرون دهشتي وإعجابي. وبسذاجة الأطفال كنت أحلم أنني يوماً ما سأصبح طبيبة وسأبتكر علاجاً يمنع الأطفال من البكاء، كنت أحلم بأدوية بنكهة الفش الفاش وحلوى العسل أقدمها للأطفال الذين يأتون لعيادتي بدلاً من الإبر والأدوية المرة. لكنني توقفت عن الحلم فجأة دون سابق إنذار ليس بسبب تقديري في الثانوي بل أبكر من ذلك بكثير وليس لأن أهلي لم يدعموني بل قبل أن يعرف أهلي حتى إنني أريد أن أصبح طبيبة، لقد كان ذلك بسبب معلمتي سارة: صائدة الأحلام.
منذ أن بدأت تلقي العلم على يديها في الصف الأول المتوسط وهي تكرس الكثير من وقتها وجهدها لكي تقنعنا أن عمل المرأة الحقيقي هو تربية أطفالها وأن سعادتها الحقيقية في منزلها. فقد أحضرت لنا ذات يوم قصاصة من جريدة ونسخت عنوان المقال المكتوب في هذه القصاصة على السبورة بخط كبير، وقرأناها بصوت مهموس ثم بصوت عال، لقد كان العنوان يقول: "طبيبة تصرخ: خذوا شهاداتي وأعطوني زوجاً" وشعرت بالرعب، ما بها هذه الطبيبة؟ ما الذي حدث لها؟ وبدأت معلمتي التعليق بحماسة "كل الطبيبات يشعرن بالندم الآن صدقوني.. لا توجد طبيبة لا ترغب في الزواج وإنجاب الأطفال.. إنها فطرة المرأة يا أخوات وهذه الطبيبة تصرخ من الألم من الندم من القهر لأنها صارت عانس لا زوج لا أطفال"، عندها احتقرت الطبيبات كيف لا يشعرن بالخجل من الصراخ طلباً للزواج، أنظر إليهن بعين الخيال يتصايحن كلبؤات في موسم تزاوج فيزداد مقتي واشمئزازي وكرهت هذه المهنة وتوقفت عن الحلم بأن أصبح طبيبة بل والأسوأ مازلت أتوجس من الطبيبات وأنظر لهن بريبة في ممرات المستشفيات خشية أن تقع إحداهن وتبدأ بالصراخ.
مازلت حتى الآن أجهل كيف اصطادت حلمي بممارسة الطب بهذه البراعة وتلك القوة وليت الأمر توقف عند مهنة المستقبل لقد بدأت باصطياد الأحلام ولم يعد بالإمكان إيقافها. ففي أحد الأيام أحضرت لنا صورة للأميرة ديانا وبدأت تحكي المأساة من وجهة نظرها الخاصة دونما تعاطف فأثر ذلك في نظرتنا لديانا أميرة القلوب السندريلا الخجولة التي خطفت قلب الأمير وصرنا نراها امرأة لعوباً لم ينفعها جمالها ولا لقبها فكرهت الأميرة الجميلة وحمدت الله أنني لست أميرة ولا جميلة ولا حلم لدي بأن أكون جميلة أو أميرة على أحد. ثم في يوم آخر حكت لنا عن كريستينا أوناسيس الوريثة اليونانية فحمدت الله أنني لست غنية ولم أحلم بذلك أبداً. ثم في يوم آخر حكت لنا عن مارلين مونرو عن حياتها القذرة ووفاتها الغامضة المرعبة فحمدت الله أنني لست مشهورة ولا أنوي ذلك. وحكت لنا عن النساء الغربيات اللواتي يعملن في جمع القمامة وصيانة السيارات ويتعرضن للتحرش والاعتداء غدوهن ورواحهن، وحكت لنا عن عارضات الأزياء الغارقات في مستنقع القاذورات.. لقد حكت الكثير والكثير فقد كان لديها العام الدراسي بأكمله وكان أمامي ثلاث سنوات كي أنتهي من المرحلة المتوسطة وأغادر مدرستها إلى الأبد. ثلاث سنوات وهي تبذل كل جهدها لتزهيدنا في الدنيا وتصغيرها في عيوننا فلا نطمح بشيء ولا نحلم في شيء، فهل رغبتنا في الجنة؟
في أحد الأيام أحضرت لنا كتاب "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" لابن القيم – رحمه الله – وطلبت منا قراءة الكتاب ثم اختيار أحد الفصول وتلخيصه. ترددت في البداية لأنها المرة الأولى التي أمسك فيها بكتاب من التراث، ثم فتحت الكتاب وبدأت القراءة، كان ابن القيم - رحمه الله - يصف بأسلوب رائع نعيم أهل الجنة وأنهارها وقصورها خيامها وحورها، فغرقت في الحلم وشعرت بالأمل بالسعادة بالشوق إلى الجنة، وقمت بتلخيص الفصل الخاص بالحور العين وغنائهن على ضفاف الأنهار وأنا لا أريد أن أنتهي من التلخيص. سلمنا ملخصاتنا للمعلمة سارة ويا لدهشتها إذ لم يخرج اختيارنا عن فصلين: الحور والخمر فاتسعت عيناها وحدقت بنا في غضب شديد وهي تصرخ "ما هذا الاختيار؟ ما هذا الاختيار؟ ولا واحدة منكن اختارت تلخيص ما قاله ابن القيم من أن مجالسة الصالحين في الجنة هي أعظم لذة يحصلها المؤمن في الجنة؟! فشعرت بالإحباط وتأنيب الضمير لأنني في سريرتي أكاد أقسم إن الصالحين لن يرغبوا بمجالستي، وهكذا مات الحلم، حتى الجنة لم تكن تسمح لنا بحرية الحلم بما سنفعله فيها ففقدت الأمل حتى في الجنة.
الآن ودونما حلم يذكر صرت أمشي في زحمة الحياة ببطء وتثاقل لأنني لا أعرف إلى أين سأذهب، صرت أفكر طويلاً طويلاً بروية وتمهل في كل شيء وأي شيء لأنني لا أعرف كيف أقرر. والفضل في ذلك كل الفضل لمعلمتي: صائدة الأحلام.