تتعدد القراءات الغربية عن رهانات المستقبل والصورة التي ترى أنه سيكون عليها عالم الغد. هكذا صدرت دراسات عديدة عن مراكز الدراسات المستقبلية وعرفت رفوف المكتبات سلسلة طويلة من الكتب التي جعلت من "مستقبل العالم" موضوعا لها، واشتهرت تقارير مثل تلك التي أعدّتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عن حالة العالم في أفق العقود الثلاثة القادمة أو تقرير "مركز دراسات الأمن التابع للاتحاد الأوروبي" عن "العالم في عام 2025". للإشارة فقط عرفت الأسابيع الأخيرة في فرنسا وحدها صدور عدد من الكتب والدوريات المختصّة المكرّسة لدراسة ما سيكون عليه "العالم في أفق عام 2030".

اللافت للانتباه هو أن مستقبل منطقة الشرق الأوسط يحظى بالاهتمام عامّة على المدى القريب والبعيد في هذه القراءات كلّها. وهي تتفق على التشاؤم وعلى القول إن منطقتنا ستبقى زاخرة بالتوترات والمواجهات ومهددة بالأخطار الخارجية والتحديات الداخلية، وليس السياسية منها فحسب ولكن أيضا الاقتصادية والاجتماعية والإثنية والطائفية وغيرها.

ما تجمع عليه الآراء أيضا هو أن قضيّة فلسطين والسلام في الشرق الأوسط تشكّل التحدّي السياسي الجوهري الأساسي، الراهن والمستقبلي، الذي تواجهه المنطقة، وهو الأكثر ترسخا في وعي شعوبها. كما تدفع هذه المنطقة ثمنه غاليا منذ قيام الدولة العبرية في قلبها وما جرّه ذلك من حروب متتالية ونزاعات لم تهدأ.

وتُجمع الآراء أيضا على القول إن ما ستؤول إليه الأوضاع في العراق سيكون ذا أهمية حاسمة بالنسبة للمنحى الذي ستأخذه "سفينة" الشرق الأوسط في بحر العالم المضطرب المتداخل الذي لا يعرف أحد بالدقّة من يقود ومن يقرر فيه؟. القراءات حيال العراق لم تتغيّر منذ سنوات وحتى اليوم، وتقول أكثر الآراء ترددا باستمرار: حالة الاضطراب القائمة فيه لفترة قادمة في ظل دولة ضعيفة ومجتمع يعاني الكثير من الشروخ. وقراءة أخرى أكثر تشاؤما تنذر من إمكانية أن تمزّقه حرب أهلية تذكي المصالح الخارجية نيرانها على قاعدة مصالحها الذاتية. اللافت للانتباه أنه ليست هناك قراءة "متفائلة" حيال مستقبل هذا البلد العريق.

ومن الأفكار التي تتكرر القول أن الأفق القريب لا ينبئ بحلول للنزاعات القائمة حاليا، بل هي مرشحة للتزايد كمّا وللتعاظم نوعا. و"السيناريوهات" المقدّمة تؤكّد كلّها على أن المرحلة القادمة "محفوفة بالغموض والمخاطر" في الشرق الأوسط الذي "سيبقى إحدى المناطق "الأكثر حساسية في العالم" على مدى العقود القادمة.

والتحديات "غير السياسية" ـ التي يتردد ذكرها باستمرار ـ كبيرة هي أيضا في الشرق الأوسط. كبيرة و"مصيرية" أيضا. وتحمل مسميات ـ دون الخوض بالتفاصيل المقلقة ـ تلوّث البيئة وندرة المياه العذبة وتعاظم البطالة مع التزايد السكاني الكبير وغير ذلك من التحديات. ما تؤكّده القراءات المقدّمة هو أن مواجهة هذه التحديات "غير السياسية" هي، أي المواجهة، ذات طبيعة سياسية بامتياز. هذا مع إضافة القول إن القوى المحليّة، بكل مشاربها وصفاتها، تبدو غير فاعلة في صياغة ملامح مستقبل آخر أكثر تفاؤلا للمنطقة.

هكذا إذن تبدو صورة مستقبلنا، كما يرسمها الآخرون، قاتمة، مشوّشة، مقلقة، منذرة بالمخاطر والكوارث. ويتفق الجميع في الغرب على القول إن الواقع العربي القائم قاتم بكل ما يحتوي عليه من تناقضات ضاربة في الجذور وبؤر نزاع مرشحة لتوسع رقعتها وزيادة خطورة "طبيعتها" في المستقبل بسبب نيران الجهل والتعصّب والتطرّف التي تغذيها.

بكلّ الأحوال، مهما قيل.. ولماذا قيل، تبقى سياسة النعامة التي تضع رأسها في الرمل هي أسوأ السياسات لليوم.. وللغد. ولا بدّ لمن يريد التقدم، وربما البقاء، أن يقرأ واقعه أوّلا كما هو بكل مكوّناته ومعطياته وتناقضاته ومشاكله الجوهرية التي تشدّه إلى الوراء. هذا كلّه بأفق مواجهة المستقبل والانتماء إلى العالم. إنها الخطوة الأولى "الصعبة"، وربما "باهظة الثمن"، إنّما التي لا بدّ منها في مسيرة "الألف ميل" المرجوّة..

تقول دروس التاريخ كلّها إن البشر يحصدون غدا ما يزرعونه اليوم.