ولدغت جدة من جحر مرتين حتى بات التعود على الإهمال يقلب موازين المسؤولية ويربطها بالغيبي والغضب الإلهي الذي أصابها، فتستريح ضمائر ماتت، وأخرى استعذبت الإماتة لأسبابها الخاصة في بسط الهيمنة على العقول والنفوس بتجيير الفساد للذنوب، وربطه بالقضاء والقدر، وبالتالي تخدر العقول وتستمر المآسي، وتكون الغلبة للفساد والمفسدين؟!!

ومآسينا المتصلة بالغيبيات تجعلنا نرجئ العمل إلى أن تحِلّ المصيبة، بل وتتكرر، فنحن لا نعرف أن نقدر البلاء قبل وقوعه، وبالتالي غير معنيين بأخذ الاحتياطات والاستعداد للكوارث، بل ننتظر حتى تأتينا فجأة ونصادف بالمصيبة وتبدأ الإغاثة الفورية كردة فعل عشوائية.

وثقافة التعامل مع الأزمات لا تعترف بالتطور، والاجتهاد فيها سيد الموقف، فنحن نراوح بين إنكار الأزمة، أو كبتها حتى تنكشف عوراتها، كما جرى في مصيبة جدة العام الماضي، ثم نوالي بخس الأزمة حقها من الجدية والتفاعل حتى تطفح بتدميرها "أزمة جدة الثانية".

ولأن الضد بالضد يدرك، ففي اليابان نظام اسمه "كانبان" والمفهوم الجوهري له يقوم على أساس تحفيز الأزمة Stimulate the crisis وخلقها ليبقى الإداريون والعمّال دائمًا في حالة تأهب جاهزين لعمل ما بوسعهم سواء أهناك أزمة حقيقية أم لا, أي أنهم مستعدون على قدم وساق لمواجهة الاحتمالات غير المرغوبة، وللدول المتقدمة شبكات وتقنيات عالية الجودة لتصريف مياه الأمطار بقوة المغناطيس، وهي بلا شك أفضل من السدود، والسؤال: أما آن الوقت لتسليم أمور البنى التحتية لشركات أجنبية بالتمام والكمال، في جميع أمانات المدن وليس في مشاريع تصريف مياه السيول؟ إلى أن تشفى العقول والنفوس من داء الفساد؟!

في شهر جمادى الآخرة 1431 صدر أمر للمالية بصرف (600) مليون ريال لأمانة جدة ولم تصرف إلا في ذي القعدة أي بعد (5) أشهر ولم تسأل المالية عن سبب التأخير؟ ولم تفصح أمانة جدة والمجلس البلدي عما أنجزته من مشاريع طالما المشكلة لم تحل والكارثة تكررت؟، ويزداد العجب أن المقاولين والمسؤولين عن تنفيذ هذه المشاريع كلفت دراستهم للمشروع (100) مليون ريال! ألستم معي أن لدينا مصيبة اسمها "الدراسة" فوق مصائبنا التي تلي الدراسة!! دراستنا للمشاريع بذاتها جزء من الكارثة وثمرة من ثمرات الفساد.

غالبية الكتاب تناول كارثة جدة بألم المفجوع، والبعض غرد خارج السرب رغم أن استغلال الكوارث لتسجيل مواقف تساند الخلل لم يعد يجدي في زمن اليوتيوب وقوقل والفيس بوك وتويتر، ولكن لأن النفوس تأتي كبارا وصغارا يختار المرء ما يكونه.

عندما كتب د/ عبدالله الطويرقي مقالاً عن جدة ذكر بأن أمانتها أنتجت مدينة كارتونية، ردت أمانة جدة رداً خاليا من اللياقة والأدب، واصفة ما كتبه الدكتور بـ" افتراءات ناتجة عن جهل"، يقول د/ الطويرقي (للأمانة جدة بحاجة لعملية جراحية كبرى تبدأ بحل أمانتها وتطهير كل ما له علاقة بها من مسؤولين وممولين ومستثمرين أنتجوا مدينة كارتونية بكل ما في الكلمة من معنى ومن خزينة الدولة) أوردت الأمانة هذا الجزء كدليل على سوء أدب الطويرقي، فهل كان كاذباً؟ أليس الغالبية يشاركه رؤية الحل الجذري؟! إنه شأن الصادقين، تحمل كلماتهم وما تخطه أيديهم حكمة تصدقها الأيام وتكشفها المواقف.

وكما تمسك كأس الماء مقلوبا للشرب من قعره المغلق لام أحد الكتاب الغرقى في سيول جدة، بمناصفتهم المسؤولية مع المفسدين قائلاً "فلولا المواطن الفاسد لما كان على الطاولة الأخرى أيضاً المسؤول الفاسد وبالإضافة لمطالبتنا بأن يتحمل كل مسؤول مر على هذه المدينة منذ أربعة عقود جزءاً كبيراً من المحاسبة، فإن المنطق أيضاً يقول بهدم هذه العشوائيات ومصادرتها تماماً ودون حتى الحد الأدنى من التعويض أو المكافأة. من وضع يده عبثاً على متر من الأرض فعليه أن يدرك أن هذا المتر لم يكن له في الأصل. نحن بمكافأتهم وتعويضهم نصادر أدنى حدود العدالة“.

وأجيب الزميل الكاتب لهذا الغضب أن من يجب أن يدفع فاتورة السحابة؟

من سرق حق المواطن في تملك بيت يأويه بتملكه عشرات الكيلوات ومصادرة أجزاء كبيرة من مساحة الوطن بلا حق، يدفعها من منح آلاف الأمتار في بطون الأودية، ومن خططها ومن باعها، يدفعها المسؤول الذي أوصل الخدمات لأماكن بطون الأودية، يدفعها كل مستفيد من الفساد بمصادرة أمواله التي نهب وإرغامه على بناء مساكن للمتضررين بها.

ويدفع المواطن الفاتورة لو ملك خيارات في أماكن أخرى واختار بالذات بطون الأودية، لن يدفعها وهو لم يجد سواها إلا أراضي المتر الواحد فيها بلغ عشرات الآلاف، وكأنه يقف على متر من ذهب لا من تراب، يدفعها المواطن لو الأمانة رفضت توصيل الخدمات فجلبها المواطن بنفسه، يدفعها المواطن لو خير فاختار!

أي عدالة تلك التي تتهم المواطن البسيط بأنه حرامي "وضع يده عبثاً" أيكون العبث على أراضٍ مخططة وذات خدمات؟!

العبث الحقيقي؛ وصف المواطن الموجوع بفاجعته بالعابث، وهو من ضاقت به واستحكمت!