عندما ترمّلت عروسنا (اليتيمة) وهي تزدان وضاءةً في ريعان شبابها افتقد الكلم تعبيراً، وغدت الصورة أوقع ألماً وقدرة على نقل عمق كارثةٍ من قلب مدينةٍ أصبحت بين أربعاءين (جزيرة) تحت الماء!

وعندها زهقت أرواح، وفقدت عشرات الأنفس، وروع الآلاف، وتعرت أسرٌ، وأسقف ومنازل تهاوت، وحالات بؤسٍ لا ترحم ومعادلة مخيفة لا حل لها في ليالٍ أربعائية حالكة الظلام.

وعندما جُعلنا نتساءلُ عن مآل تقرير لجنة تقصي الحقائق بعد ثلاثة أشهر من بحثٍ وتحقيقِ ولم يزل هاتكوها بملابس مخضَّبة بدماء البؤساء من أربعاء أسود ماضٍ ولحقه آخر فضحت فيه الأمطار قدراتنا، بقي الشعب السعودي وضاء النقاء بمعدن زاهٍ لمعانه عند المحن.. فكانت اللحمة الوطنية تخلو من الطائفية والعرقية والفئوية - قاتلها الله - وتصدى للفاجعة معاً شباب وفتيات وشيوخ وسيدات انتشروا في قلب الحدث.. للخير يبحثون، غامروا بأنفسهم نحو نجاة غيرهم، همة ونماذج مشرفة لمجتمع وقف في الضراء فوجدناها حية وعلى الهواء مباشرة تخفيفاً من آلام ومواساة ثكلى ومساعدة محتاجين ممن ضربتهم هذه الكارثة، اجتهدوا واحتسبوا في جهد تكاملي شمولي لإسعاد إخوانهم.

كم تسر مواطنتنا الصالحة عندما تسمع أو ترى أو تلمس تلك التظاهرة الإنسانية الإسلامية السعودية بأمثلة منسوجة من خيوط التواشجية واللحمة الخضراء.. فكان بين البداية والنهاية قصة إخلاص وحب وطن.

شمر المئات عن سواعدهم الوطنية تطوعاً في لجنة جمع المساعدات للأسر المتضررة، وخرج آلاف المتطوعين والمتطوعات إلى الأحياء المتضررة، ومعهم فرق إنقاذ ومجموعات تطوعية متعددة الأسماء مشتركة المعاني بسمو وطن وفخر بأهله ومقيميه.

الأمثلة كثيرة بل كبيرة ومؤشرات جادة متميزة لمسناها من مجتمع كافح دون مقابل أو رجاء لبذل عطاء اليوم وغد، أثبتوا أننا شعب طيب ذو معدن أصيل يحمل شهامة وأصالة وصفات المجتمع الحضاري ولكنها أسفاً لا تظهر إلا عند (الأزمات) مما يثبت أسفاً أننا نئن تحت وطأة سوء البنية الإنسانية أولاً، ليبقى سؤال هناك يحوم: لِمَ لم تظهر هذه المواقف إلا متزامنة مع أزماتنا فقط وبحلول (القص واللصق) المستديمة في جميع اتجاهاتنا الحكومية أو الاجتماعية التي نعاني منها في بنائنا الإنساني والحضاري؟

أليست لوحة جميلة بدأنا برسمها فلماذا لا نكمل جمالها ببقائها ونستمر بتلوينها وصولاً للاوعي (الإنساني) وديمومة حياة ؟

لماذا لا نستغل هذه النكبة في بذر مشاريع مستديمة تتيح لنا الوقوف جميعاً أمام مشروع إنساني مستقبلي كبير يكون نواة في بلادنا؟

لنكمل مسيرة تنمية حضارية بلحمة واحدة دون مناطقية أو عنصرية أو مساومة لتصبح أربعاءات جدة أنموذجاً في مدارسنا وفصولنا وأسرنا وفي لاوعي أطفالنا، فالتربية السليمة الداعية إلى المساواة، هي صفات المجتمع الحضاري الإنساني الإسلامي السليم من عقدة (الآخر) أياً يكن بمعزل عن دين ومذهب ومنطقة ودولة... وقائمة تطول في عقول البعض أسفاً.

حالمتنا (جـدة) لم يكُ في فاجعتك سوى يد شعب واحد وإطفاء لجذوة العنصرية، وإذابة بذاءة المناطقية، فجرفت سيولك معانيها، وأجمعت العقول والقلوب أن هناك فرقاً بين من يعمل لإنقاذ أرواح البشر وهناك ساذج (أجوف) لا يعرف قيمة الإنسانية يسمى عنصرياً لم يزل منعزلاً داخل صومعته ومنهجه السقيم بلا عزاء.