إدارة المخاطر مفهوم يكاد يكون غامضاً جداً في القطاع الحكومي، والسبب في اعتقادي يعود إلى أن البعض يرى أن هذا المفهوم يرتبط بالشركات والمؤسسات في القطاع الخاص فقط، وخاصةً فيما يتعلق بالاستثمارات في الأسواق المالية.
كما أن هذا المفهوم يلقى مقاومة واستنكارا شديدا في الوسط الرقابي، بحجة أن الجهات الحكومية تعمل تحت إطار الأنظمة والقوانين واللوائح التنفيذية لها، مع العلم أن تقييم المخاطر يعتبر القلب النابض للعمل الرقابي وفق المعايير المهنية.
فإذا علمنا أن الأنظمة والقوانين تكون في الغالب عبارة عن قواعد عامة، لا تتضمن أية تفاصيل محددة، ثم تأتي اللوائح التنفيذية لشرح وتفسير هذه القواعد مع وضع بعض الإجراءات التنفيذية لها، وهي بالطبع تحتوي على بعض الإجراءات الرقابية التي تقلل من بعض المخاطر، إلا أنها تكون ثابتة لسنوات طويلة لا تتغير مع تغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والصناعية والبيئة المحيطة، هذا من جانب.
ومن جانب آخر، فإنه يتم التعامل مع هذه الأنظمة واللوائح بشكل روتيني وشكلي، فكثير من الجهات الحكومية تحرص على تعبئة النماذج الرسمية، واكتمالها من حيث التوقيع والتأشير عليها، وإعداد المحاضر والتقارير اللازمة وفق متطلبات النظام، ولكن لا نعلم ماذا حدث من إجراءات سبقت تعبئة هذه النماذج وإعداد المحاضر والتقارير؟.
ولنأخذ على سبيل المثال نظام المنافسات والمشتريات الحكومية ولائحته التنفيذية فقد احتوت على بعض الإجراءات الرقابية التي تقلل من مخاطر الغش والفساد مثل تشكيل لجنة لفتح المظاريف وتشكيل لجنة لفحص العروض وإجراء التحليل المالي والفني للعطاءات المقدمة وتشكيل الجهاز الإشرافي على المشاريع، ونجد أن كثيرا من الجهات الحكومية تتقيد بهذه الإجراءات حرفياً وتلتزم بها، فنرى محاضر للجان المختصة، وتقرير التحليل المالي والفني، والتقارير الإشرافية الدورية..إلخ، وبالرغم من ذلك يوجد تعثر وسوء أداء في تنفيذ المشاريع، ووجود حالات للفساد المالي والإداري فيها؟ بل وظهور مشاريع وهمية أيضاً مكتملة الإجراءات النظامية والقانونية.
وعند اكتشاف مثل هذه الحالات تتخذ إجراءات وقتية تتعامل مع وقوع الحدث نفسه دون اتخاذ أية إجراءات وقائية تقلل من حدوث مثل هذه الحالات في المستقبل، فيتم إصدار بعض التعاميم والخطابات لاحتواء هذه المشاكل ومن ثم تنسى هذه الإجراءات مع مرور الوقت.
هذا هو الحال في كثير من الجهات الحكومية، لذلك نجد غيابا يكاد يكون تاما لإدارة المخاطر وإن تمت ممارستها بشكل ضمني في بعض الإجراءات الجزئية في الأنظمة واللوائح إلا أن ذلك لا يعد كافياً، فنحن بحاجة إلى وجود آليات لتحديد المخاطر المرتبطة بالتغيرات الاقتصادية والاجتماعية ومعالجتها.
ولكي أوضح للقارئ الكريم مفهوم إدارة المخاطر وتقويمها، أطرح مثالا مبسطا لتوضيح الفكرة، ومن ثم أدخل في موضوع مخاطر المشاريع الحكومية.
فعند هطول الأمطار في يوم ما على سبيل المثال، ولديك هدف محدد وهو الوصول إلى مقر عملك في الوقت المطلوب، فإنك قد تتوقع حصول بعض المخاطر والتي تؤثر على تحقيق هذا الهدف، منها الخوف من حصول حادث لسيارتك، أو وجود ازدحام شديد، فإنك في هذه الحالة سوف تتخذ بعض الإجراءات المطلوبة للتقليل من هذه المخاطر إما أن تحول هذه المخاطر إلى شخص آخر و تستقل سيارة أجرة، أو أنك تقلل منها و تخرج في وقت مبكر جداً لتفادي الازدحام والحوادث، أو أن تقضي عليها بعدم الذهاب للعمل وتأخذ إجازة في هذا اليوم،أو أن تقبل بهذه المخاطر وتخرج بسيارتك كالعادة.
هذا باختصار شديد لمفهوم إدارة وتقويم المخاطر بشكل مبسط، وهو ما يمكن تطبيقه على المشاريع الحكومية، فمن المعلوم أن لكل جهة أو قطاع حكومي أهدافا استراتيجية محددة في خطط التنمية، منها مشاريع إنشاء مستشفيات وجامعات ومدارس، ومشاريع مياه وصرف صحي وإسكان وغيرها، وبناءً على هذه الاستراتيجيات هناك خطط تفصيلية تشغيلية سنوية تتضمن أهدافا تفصيلية مرحلية لتحقيق الأهداف العامة.
وبوضع الأهداف على مستوى الجهة الحكومية وعلى مستوى الأنشطة والمشاريع، تستطيع الجهة أن تحدد عوامل النجاح للمشاريع، وتحديد مخاطر فشلها.
وبالطبع هناك بعض الإجراءات الإدارية والمعادلات الرياضية لتقييم وتحليل وإدارة المخاطر للمشاريع، فيتم وضع درجة لاحتمالية وقوع الخطر، ودرجة لوصف الخطر (هل هو عالٍ أو متوسط أو منخفض)، ومن ثم كيفية معالجة هذا الخطر وتحديد الإدارة المسؤولة عن ذلك (الإدارة العليا، الإدارة الوسطى، الإدارة التنفيذية) وهكذا.
ومن أمثلة المخاطر التي يمكن تظهر في المشاريع الحكومية والتي تتعلق بالغش والفساد، وتحتاج إلى وضع آليات محددة وإجراءات مكتوبة للتقليل منها، ما يلي: وجود نفوذ لمسؤول حكومي قد يكون له علاقات ومصالح خاصة في بعض الشركات والمؤسسات، وبالتالي يتم طرح مشاريع غير ضرورية أو مبالغ فيها لصالح هذه الشركات، ومن المخاطر أيضاً عدم الفصل بين الواجبات والوظائف وعدم توازن تقسيم العمل في إدارة المشاريع مما قد يؤدي إلى التلاعب وإخفاء هذا التلاعب، ومن المخاطر استلام المواد والخدمات من الشركات وهي غير مطابقة للمواصفات وتكون رديئة ويثبت في محضر الفحص والاستلام أنها مطابقة، هذا بالإضافة إلى وجود احتمالية تواطؤ الجهاز الإشرافي أو الاستشاري المكلف بمتابعة المشاريع مع المقاول أو الشركة.
وهناك أمثلة كثيرة يمكن تقديرها لمخاطر المشاريع، وأترك للقارئ التفكير في كيفية المعالجة والتقليل من المخاطر التي تم استعراضها آنفاً، وفي النهاية أود التنويه بأن عملية تقويم المخاطر تتم بطريقة منتظمة ومستمرة، ولكن المهم في هذا الموضوع هو تحديد أو تصميم إجراءات رقابية للتقليل من المخاطر المتوقعة أو التي حدثت بالفعل، ومن المهم أيضا وجود نشاط يتعلق بتقويم المخاطر في جميع الجهات الحكومية.