لا شيء يمكن أن تتخيله وأنت مسافر إلى هجرة "حرض" ـ الواقعة على مسافة 180 كلم جنوب غرب مدينة الهفوف بمحافظة الأحساء، شرقي المملكة ـ سوى أنك ستواجه صحراء جرداء، وقطعانا من الإبل، والماشية المنتشرة على جنبات الطريق الصحراوي المؤدي إليها، وبين هذا وذاك، تضرب أنابيب البترول والغاز الممتدة موعدا فوق التلال الذهبية، وكأنها عروق تحمل الحياة لجسد هامد. غير أن الحال سرعان ما تتغير عند وصولك لواحة زراعية شاسعة، حيث ترتمي المشاريع الخضراء على مساحة عشرات الكيلومترات في مشهد بديع.
مشاريع متنوعة
هذه المشاريع ما إن تدخل بواباتها، تصافح الخضراوات والحبوب بأنواعها، ومشاريع الماشية الحديثة. وبفضل دعم الاستثمار الزراعي للمستثمرين في المملكة أصبحت "حرض" والهِجر القريبة منها بمثابة "سلة غذاء الأحساء"، لأنها تمد سكانها طوال العام بالخضراوات، المتمثلة في "الحبحب"، و"البطيخ الأصفر"، و"الشمام الصيني"، وأصناف "القرعيات" المختلفة، فضلا عن حشائش المواشي والأنعام، وأعلافها.
"الوطن" قضت يوما كاملا في إحدى مزارع "حرض"، متنقلة بينها وبين مزارع أخرى، لتنقل تجربة الاستثمار في الصحراء، التي تنتج المحاصيل المتنوعة، حسبما شاهدنا بأعيننا، وربما تدر ذهبا مستقبلا، إذا ما سار هذا الاستثمار بوتيرة تصاعدية، ولقي رعاية استراتيجية من الدولة ورجال الأعمال.
موقع حرض
تقع "حرض" في الجنوب الغربي من الأحساء، وتبعد عن النطاق العمراني للأحساء 180 كلم تقريبا، وهي تابعة لها إداريا، وتعد نقطة تلاق على الطريق الصحراوي القديم، بين الأحساء والمناطق الوسطى في المملكة. وبعد اكتشاف النفط فيها عام 1949، تحولت الصحراء إلى شبكة أنابيب تحمل البترول والغاز. وكان الحدث الأكبر، هو تدشين مشروع تطوير الغاز الطبيعي والزيت في "حرض" بداية من عام 2004، لينتج ما طاقته 1,6 بليون قدم مكعبة قياسية في اليوم. ومن هنا وضعت حرض اسمها على خريطة المملكة، لتلفت أنظار العالم إليها كـ"منجم من مناجم الاقتصاد الوطني الهام". ولعل هذا الحدث الكبير وجه أنظار المستثمرين الزراعيين إليها، بعد إصلاح العديد من الطرق، التي سهلت الوصول إلى أقصى نقطة هناك.
قصة الاستثمار
وليد العفالق، أحد الذين استثمروا زراعيا في "حرض"، أوضح في حديثه لـ"الوطن"، أن رغبة الاستثمار في "حرض"، جاءت من منطلق أن "الزراعة رافد من روافد الاستقرار الزراعي والبيئي والاقتصادي على المستوى الوطني من جهة، ومن جهة أخرى فإنها ذات مردود مادي جيد، ومن هنا تم اتخاذ قرار الشركاء بإنشاء مزرعة، خاصة أن منطقة حرض تعتبر غنية جدا بالمياه الجوفية، التي هي العامل الرئيس لوجود الزراعة في أي منطقة جغرافية في العالم". مضيفا: أنه "إذا ما كان لإنشاء المزرعة دافع اقتصادي، فلا يمكن تجاهل الدافع الشخصي والوجداني المطبوع في قلب الإنسان الأحسائي، المتمثل في حب الأرض وتعلقه بها، والسعادة التي تغمره بتلقفه ثمراتها النضرة، من بين رمال الصحراء المتلاطمة". ولأن مساحة المزرعة كبيرة وشاسعة، حيث تبلغ 800 هكتار، فقد لجأ العفالق إلى "وضع خطة لاستغلال أكبر بقعة من مساحة المزرعة بشكل تقني ومتطور". موضحا أنه "تم التخطيط
لتقسيم المحاصيل المزروعة إلى قسمين: قسم الأعلاف، وهي "البرسيم"، و"الرودس"، و"الذرة"، و"الشعير"، وقسم الخضار، مثل "الشمام"، و"الحبحب"، و"الكوسا"، وغيرها من أنواع الخضار، بالإضافة إلى زراعة النخيل، ونحن بصدد زراعة 25 ألف نخلة خلال الثلاث السنوات القادمة، كما يوجد إعداد لإنشاء مشروع أغنام يضم 20 ألف رأس غنم، من نوع النعيمي".
تذليل العقبات
ويشير العفالق إلى أنه "لا توجد عقبات أمام المستثمرين في الصحراء، بل العكس، فإن الدولة قد سهلت كل شيء، وقدمت كل ما يحتاجه المستثمر من دعم مادي ومعنوي، وتسهيلات عقارية، وكل ما يخص العملية الإنتاجية الزراعية"، معتبرا أن المهم هو "وجود الرغبة والتصميم على تحويل الصحراء إلى مناطق خضراء، كي تلبي حاجات الاقتصاد، وتساهم في تغيير البيئة الصحراوية، من تلك البقعة من الوطن".
تقنية الري
وعند سؤالنا عن طريقة ري هذه المساحات الشاسعة الخضراء، أكد العفالق أن هذه المشاريع تقوم على "سياسة زراعية حديثة، أهمها الترشيد في استخدام المياه، مما ينعكس على الجودة والنوعية للمنتج الزراعي، فإن ري المزروعات بالطرق الحديثة السليمة، كان من أولويات أصحاب المشاريع، سواء الري بالمحاور، أو التنقيط"، مضيفا أنه "على طول تلك الهكتارات الزراعية، تستخدم الرشاشات المحورية، التي تناسب طبيعة التربة الرملية، ويزرع فيها البرسيم والرودس والشعير، ويتم استخدام الري بالتنقيط في مناطق زراعة الخضار والنخيل، وهذه الطرق توفر كمية كبيرة من المياه، مقارنة بالطريقة التقليدية، وهي الري بالغمر"، مبينا أنه "تبلغ نسبة التوفير ما يقارب 75%"، معتبرا أن هذه الطريقة تعتبر "الوسيلة الناجعة الوحيدة في الأراضي الرملية، والمناطق ذات الطبوجرافيا التي تغلب عليها الارتفاعات والانخفاضات". وبعيدا عن الجانب الاقتصادي الذي يوفره الري الحديث، فإن أصحاب المشاريع "يعتبرون أن الحفاظ على الثروة المائية مطلب وطني ومطلب شعبي وحكومي، لأن رواسب وخطورة استنزاف المياه الجوفية تأتي آثارها السلبية على الوطن، بعد فترة زمنية غير منظورة في الوقت الراهن، ولعل ظواهرها بدأت تظهر منذ عقد أو عقدين من الزمن"، بحسب ما يرى العفالق، وهي وجهة النظر التي يشاركه فيها عدد من المزارعين، والخبراء الزراعيين.
مئة مزرعة
بوخلدون، مهندس زراعي، يعمل في إحدى المزارع في "حرض"، أشار في حديثه لـ"الوطن" إلى أن "صحراء حرض تضم أكثر من مئة مزرعة، تنوعت بين الكبيرة الواسعة المقدرة بمئات الكيلومترات المربعة، وبين ما تعدُ ببضعة الكيلومترات"، معتبرا أن "الإنتاج" في مجمله وصل إلى الحد المطلوب في المزرعة التي يعمل بها، حيث وصل إنتاج "الشعير" إلى ما يقارب من ألف طن، من أصل 150 هكتارا، وما يقارب 300 ألف لبنة "برسيم" علفي، و10 آلاف حبة "رودس" كبيرة، و2000 طن من الخضار، من "شمام"، و"حبحب"، و"كوسا"، و"طماطم"، وغيرها.