يجمع المتابعون للمشهد الثقافي السعودي على أنه أصبح "سيد المرحلة" عربيا بحكم حراكه المستمر، حيث الفضاءات الواسعة في الحوار الثقافي والفكري والاجتماعي التي لم تعد مجرد نقاشات داخلية ،بل أصبحت أي قضية جدلية محلية تناقش في مختلف وسائل الإعلام العربية والعالمية وباهتمام منقطع النظير .

ومنذ أن أسس خادم الحرمين الشريفين استراتيجيته على مبدأ الحوار الشفاف في مختلف القضايا الوطنية ابتداء بإنشاء مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني الذي ساعد كثيرا في توسيع هامش حرية الرأي ونشر ثقافة تعدد الآراء لما يخدم الإصلاح والتطوير، وليس انتهاء بآرائه الجريئة حتى تجاه بعض طواقم الحكومة الذين ربما قصروا في خدمة المواطنين بالشكل المطلوب ، نجد أن الحركة الثقافية في المملكة بترت "ثقافة الأطراف"وهي الصفة التي كانت توصف بها مع بعض مثيلاتها في دول الخليج والمغرب العربيين من قبل بعض المثقفين والأدباء العرب. هذا "البتر" والتحول إلى مركز عربي ودولي فاعل في حركة الثقافة والعلوم العصرية ، لم يعد بإمكان أحد إنكاره حتى أولئك الذين كانوا من أكبر منظري فكرة المركز والأطراف .

وهنا يمكن الاستشهاد برأي وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة حول تلك القضية في حديثه للمثقفين والمثقفات الذين حضروا معرض الرياض الدولي للكتاب 2010 عندما قال : إن ثنائية المراكز والأطراف، التي راجت قبل عقود من الزمان، ثنائية ظالمة لأنها تنافي الحقيقة والتاريخ، ولأنها متأثرة بمقاييس مستوحاة من تكوينات سياسية وثقافية تنتمي إلى حقب التمركز الغربي وتصنيفه للثقافات والأعراق ولأنها، كذلك استوردت مقولات جاهزة وطبقتها على الثقافة العربية، وبالأخص في مرحلة الحرب الباردة.

مقومات المركز الثقافي

في أبريل 2006 وافق خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز على إقامة مركز دولي لتشجيع الحوار والتعاون الثقافي والتعليمي - يحمل اسمه- ويقام في مدرسة بمدينة "يانيكوفو" البولندية. وتأتي هذه الخطوة استمراراً للدفعة الإيجابية في العلاقات بين البلدين إثر ما حققته اللفتة الإنسانية بإجراء عملية فصل للطفلتين البولنديتين داخل المملكة.

وستعمل السعودية على دعم (مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي في مجال الحوار والتعاون والثقافة) لإبراز الصورة الحقيقية للمملكة، وتعزيز الحوار الحضاري بين الثقافتين.

وتأتي المساهمة السعودية في إنشاء (مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي في مجال الحوار والتعاون والثقافة) والمساهمة البولندية من فاوينسا بإنشاء مركز للحوار الإسلامي المسيحي, ليضع بولندا والسعودية في مقدمة الدول الرائدة لقيادة حوار فكري حضاري.

ترسيخ مبدأ التفكير والبحث الحر

لن نأتي بجديد إذا قلنا إن أهم ركائز تصنيف المملكة في خانة المركز الثقافي العالمي هو أنها مركز الإشعاع الإسلامي الذي يمتد على مساحة الكرة الأرضية بحكم احتضانها للحرمين الشريفين . لكن الجديد هنا هو النقلة الثقافية والعلمية التي جعلت المملكة مركزا مهما بشهادة علماء ومثقفين من مختلف دول العالم ، حيث شهد عهد خادم الحرمين الشريفين تأسيسا جديدا لمفهوم الثقافة والمثاقفة من خلال تبنيه لمفهوم حوار الحضارات ، ولعل أحدث ما يمكن الحديث عنه هنا هو إعلان وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل قبل أسبوع في الكلمة التي ألقاها نيابة عن خادم الحرمين الشريفين في منتدى تحالف الحضارات الثالث بالبرازيل ، أن جهود إنشاء المركز الدولي للحوار ـ الذي تبناه الملك عبدالله ـ تسير في اتجاه إطلاق مركز مستقل يضم الديانات الأساسية ولا يرتبط بسياسة أي دولة في العالم.

كذلك تعزز في عهد خادم الحرمين الشريفين مفهوم الثقافة الأوسع من خلال الانطلاق بها إلى ميدان أكبر من ميدان الأدب الذي كان إلى عهد قريب هو اللازمة الأولى لمفهوم الثقافة والمثقف ، ألا وهو ميدان العلوم العصرية والتكنولوجيا الحديثة ، تحقيقا لتعريف الثقافة والتي يجمع العلماء على أنها "مجموعة العلوم والفنون والآداب والعادات والتقاليد التي تنتجها أي أمة" . وفي هذا الإطار لا يمكن أخذ تأسيس جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية على أنه مشروع حضاري مختص بالعلوم التطبيقية البحتة ، بل هو في إطاره الأكبر تحول ثقافي واجتماعي كبير، ستثبت الأيام أنه نقطة تحول في مجال التنمية الثقافية لأنه يرسخ ثقافة تفكير جديدة ، حيث تؤكد الجامعة أن من أهم مبادئها" توفير الحرية للباحثين للإبداع والتجريب، وتوفير الحرية الكاملة للحصول على المعلومات وتبادل المعارف والمهارات والخبرات لتحقيق النمو والازدهار الاقتصادي ،واحتضان وحماية حرية البحث والفكر والنقاش فيما يتعلق بالعمل العلمي". ولاشك أن هذه المبادئ ستكون حجر الزاوية في إحداث نقلة سريعة في طريقة التفكير والبحث وهما الأساس في التغيير الثقافي الإيجابي .

وحظيت الجامعة بشهادات علماء وقادة من مختلف دول العالم حيث قال عنها رئيس جامعة مدينة ميونخ الألمانية للتقنية إنها" منارة علمية واقتصادية للعالم الإسلامي" ، أما الفائز بجائزة نوبل البروفيسور محمد يونس فقال عنها"إنها إنجاز تاريخي يحمل تصورا جديدا للتعليم والمستقبل".

اتساع دائرة الحوار حول القضايا الثقافية

ليس من المبالغة أن نقول إن حركة الحوارات حول القضايا الفكرية والثقافية،انتقلت من مرحلة النخبوية التي سادت في سنوات سابقة إلى ظاهرة عامة يشترك فيها الجميع ، من مختلف الفئات الاجتماعية والمستويات الثقافية ، حتى تكونت وبشكل جلي اتجاهات فكرية متنوعة ، تتحاور بشكل شبه يومي حول قضايا الوطن والهوية والمستقبل . صحيح أن بعض الحوارات قد لا تلتزم بمحددات الحوار الصحيحة ، ولكنها تمثل حركة ثقافية تتابعها وترصدها لحظة بلحظة الكثير من وسائل الإعلام العربية والعالمية ، بل إن بعض هذه الحوارات انتقلت إلى مجتمعات ودول عربية أخرى بفضل وسائل الاتصال والمعلوماتية التي أبدع السعوديون في استخدامها والتواصل مع الحديث منها . ويعود الفضل هنا إلى سياسة الانفتاح وتقبل الآراء التي تنتهجها حكومة خادم الحرمين الشريفين، وتشجيعه شخصيا للحوار الشفاف الملتزم بالضوابط العلمية .

الحضور السعودي من خلال الجوائز الدولية

حرص الدولة على تشجيع المبدعين الذين خدموا الإنسانية بشكل عام وعدم تخصيص هذا التكريم ، مؤشر على أنها ذات ثقل دولي مهم ، إضافة إلى التأكيد على أنها تحرص على ما يخدم البشرية . ومن هنا تظهر أهمية جائزة مثل جائزة الملك فيصل العالمية التي تعتبر حاليا من أهم الجوائز العالمية التي تكرم العلماء والمفكرين دون النظر إلى أجناسهم أو أديانهم . وهو ما تعمل عليه جائزة "عبدالله بن عبدالعزيز العالمية للترجمة" التي تبناها خادم الحرمين الشريفين وسلمت جوائز دورتها الثالثة قبل شهر من الآن . حيث تخصصت الجائزة في جانب علمي مهم جدا يعزز التواصل الحضاري مع ثقافات العالم وهو الترجمة، وذلك تأكيد لاهتمام خادم الحرمين الشريفين بقضية التواصل مع الآخر. هذا في الجانب المؤسسي أما في جانب الأفراد فقد كان فوز الروائي السعودي عبده خال بجائزة "بوكر" العربية 2010 دليلا واضحا على الاعتراف الدولي بالقيمة الفنية للمنتج الإبداعي السعودي ، وخصوصا في مجال الرواية التي حققت أرقاما قياسية ، مما جعل بعض النقاد العرب والأجانب يرون أن هذه الطفرة الروائية ، دليل على مخاض فكري اجتماعي جاد ، سيولد خلال سنوات قليلة مجتمعا يهتم بالفنون والثقافة بشكل أكبر ، خصوصا أن هذه الأعمال الإبداعية تمثل انعكاسا واضحا للحوارات التي تتم داخل هذا المجتمع حول بعض القضايا الجدلية.