مع تحول الحياة تصبح قراءة المتغيرات الثقافية والاجتماعية أكثر تعقيداً؛ إذ إن ما انطبق على فترة من الفترات قد لا ينبطق على الفترات اللاحقة، لذلك فإن أحداث الثورتين: التونسية والمصرية خلقت وعياً جديداً لدى فئة الشباب تختلف عن أشكال الثورات الكلاسيكية العربية التي حصلت قبل حوالي الخمسين عاماً. لعب الاتصال الحديث لعبته القوية في صياغة الأحداث وتغيير الواقع، وأعطى أبعاداً تواصلياً من خلال النت، مما يمكننا أن نسميها "ثورة شباب التقنية" خاصة من خلال مواقع الإنترنت وتحديداً مواقع التواصل الاجتماعي: الفيسبوك والتوتير. لم يستوعب السياسيون حجم التحولات التي خلقها فضاء النت، ومساحة الحرية، التي لم ولن يستطيعوا قمعها بالطرق التقليدية. فضاء النت أوسع من تضييق الحدود التي كان عليها الوعي التقليدي. التقنية تخلق فكرها الخاص كما تخلق قيمها الجديدة التي لم تكن من قبل، وهذا ما جعل ثورة الفيسبوك تصنع ثورة سياسية مفاجئة على المستوى العالمي؛ لأنها تنتمي لعصر يختلف عن عصر الثورات الكلاسيكية.
طبعا تختلف الرؤى في التعامل مع الفضاءات الجديدة من ثورة الاتصالات والإنترنت والإعلام الجديد؛ خاصة بما فرضته هذه التقنية من تحولات على مستوى الفرد والمجتمعات، وما تفرضه من قيم جديدة متحولة، قيم تكسب نوعيتها مما فرضته هذه التقنية من ردم الهوة الثقافية بين أبناء المعمورة، وفتح مجالات اجتماعية وثقافية تولدت من خلال مفهوم التقنية لدى الأجيال الجديدة، صانعة الحدث الافتراضي وصنيعته، ولذلك اتسقت الحركات الشبابية الحديثة مع تحولات الحياة التي فرضتها التقنية. المفكر المابعد حداثي: جان بودريار في كتابه: (الفكر الجذري) ص 69، يقارب فكرياً الفعل الرقمي على اعتبار أنه تم فيه تقويض الحدود الفاصلة بين ما هو واقع وما هو افتراضي، فأصبح الحدث التاريخي حدثاً افتراضياً بفعل التفاعلية التواصلية سواء على شاشات التلفزة أو من وراء أجهزة الحواسب الشخصية. باختصار تتحول حياتنا إلى فضاء رقمي؛ لذلك فهو يعتبر أن ذلك سوف يقود الإنسان إلى أن يتحول أو تتحول حياته إلى كائن رقمي. ما يقوله بودريار صحيح هنا من جانب ذواتنا الخارجة عن فعل الحدث الرقمي؛ لكن ما فات بودريار أنه يمكن تحويل الفضاء الرقمي إلى فضاء تاريخي وواقعي كعملية عكسية، كما حدث مع التلفزيون والفضائيات من قبل، وكما حصل في الثورة الشبابية سواء في الجانب المصري أو الجانب التونسي، وهذا حاصل بسبب نوع الوعي بالحدث الرقمي واستثماره في صالح الوعي الإنساني.
لقد خلقت عوالم الإنترنت حيزاً إنسانياً جديداً مختلفاً عن الحيز الإنساني التقليدي؛ أي أن فضاء النت، وعلى كونها فضاءً افتراضياً، إلا أنه أعطى مساحة للحرية الإنسانية أن تتوالد مرّة بعد أخرى من خلال "تَسْيِيل" الكثير من الأفكار والمعلومات، وربما المشاعر، رقمياً على شاشة جهاز الحاسوب، ومن هنا فقد خلق فضاء النت فضاءً إنسانياً جديداً بقيم جديدة صنعتها التقنية. صحيح أن فضاء النت جعل التواصل الإنساني المباشر أقل بكثير؛ بل إنه كرس الإغراق في الوحدة والانفصال الفيزيائي عن العالم من خلال تفاعل رقمي افتراضي، إلا أن الإنسان كان، ولايزال، قادر على إعادة إنتاج ذاته من خلال المنتجات التقنية الجديدة، بحيث يفتح لذاته مناخات كانت مغلقة فيما سبق، وما ثورة الفيسبوك إلا نموذج لذلك المناخ التواصلي البشري بين كافة أبناء المعمورة. يذكر عالم الاجتماع أنتوني غدنز في كتابه الضخم (علم الاجتماع) ص 526: أن اتجاهين اجتماعيين مختلفين يقفان على الضدية فيما بينهما من ناحية أثر الإنترنت على الإنسان؛ إذ يرى الاتجاه الأول أن العلاقات الإلكترونية تترك آثارها على التفاعل الإنساني بتقليصه أو تعميقه، وبموجب هذا المنظور، فإن عوالم الإنترنت تثري التواصل الإنساني بين الأفراد والجماعات والمؤسسات المتباعدة مكانياً، إذ تؤدي إلى توسيع دائرة الشبكات الاجتماعية وتكثيف العلاقات. أما الاتجاه الآخر فيرى عكس ذلك ويتخذ موقفاً سلبياً من استخدامات الإنترنت، فقد يؤدي إلى العزلة الاجتماعية والتجزئة والتفكك في نسيج الحياة الاجتماعية كما أنه ألغى الفواصل بين "عالم العمل المهني" و "عالم الإنسان الشخصي".
صفحات التواصل الاجتماعي كالفيسبوك والتويتر تجعلنا نؤيد أفكار الاتجاه الأول، في حين الإغراق في العزلة، وتكثيف المعلومة حتى لم يستطع أحد ملاحقتها تجعلنا نؤيد أفكار الاتجاه الثاني، وفي كلتا الحالتين يبقى الإنسان هو صانع ذاته الفكرية والاجتماعية. الثورتان: التونسية والمصرية جعلتانا نعيد النظر في مشكلة رؤية الإنسان تجاه ذاته وتجاه "الحدث التقنوي" الجديد ـ إذا صح الاصطلاح ـ ، ومع توافر أجهزة الهواتف الجوالة ذات التقنية العالية، والتي يتوفر خلالها خاصية دخول مواقع الإنترنت، فإن سهولة التواصل تصبح أكثر وأسهل، وفي الثورتين السياسيتين المذكورتين، فقد منحت هذه المواقع فرصة التجمع البشري، مما حمل القضايا الفكرية والسياسية إلى أبعد مداها، وتحويلها من حدث افتراضي إلى حدث واقعي عكس ما يظنه بودريار كما سبق.
تُصنَع التحولات الثقافية والفكرية ومن ثم الثورات السياسية لتغيير الواقع من خلال ما أسماه الفيلسوف هابرماس: (المجال العام) كما ينقل عنه غدنز ص 512، والمقصود به هو حلقات النقاش والآراء الفكرية، والتي بدأت من خلال التواصل الاجتماعي في الصالونات والمقاهي والمجالس العامة، وتعمل ثورة الاتصالات والفضائيات ومواقع الإنترنت في هذا العصر البديل التقني لتحريك المجال العام الذي ذكره هابرماس، ولذلك يمكن القول إن صفحات الفيسبوك صنعت ثورتها الخاصة في مجال عربي عام، ضرب المفهوم الكلاسيكي للثورات في العمق، وأعاد التفكير فيها.
إننا أمام عالم جديد تصنعه ثقافة جديدة تحتاج قراءة خاصة تختلف عن قراءتنا الكلاسيكية لتحول المجتمعات. إن أهم ما فرضته التقنية الجديدة هي توسيع دائرة الحرية بحيث يصعب تضييق وحجب الإنسان عن تواصله مع العوالم البشرية الأخرى. كما أن الوعي التقنوي لدى الجيل الجديد، والذي قاد ثورته نحو الحرية هو وعي داخل الفعل التقني، أي أنه وعي متسق مع تغيرات المجتمع، ومن هنا فإن كل عمليات التضييق القديمة على الجيل الحالي ليس لها أثر، حيث لا بد من تحول في بنية السياسات من الداخل كما حصل في تونس ومصر مفروضاً بالقوة السلمية، وهذا ما لا بد أن يعيه السياسيون جيداً.