في خلال أقل من شهر شاهدنا وعلى الهواء مباشرة، كرسين من كراسي الحكم العربي، يهويان ويتحطمان، على أيادي شباب، لم يفعلوا سوى التلويح بها، ورفع شعارات التهديد والوعيد، مطالبين رؤوس الفساد بالرحيل، حيث وصل سيل الفساد الزبى. في السابق كان النظام العربي، يسقط بسببين، إما بانقلاب عسكري داخلي، أو بغزو خارجي؛ وفي كلتا الحالتين لا يكون للشعب أو بالتحديد أغلبية الشعب دخل يذكر في إحداث التغيير، فالمسألة هنا تكون مسألة تبديل نظام بآخر، أو وجوه حاكمة بأخرى، أكثر من كونها مسألة تغيير نظام. فالتغيير الجذري هو الذي يحدث من القاعدة ليهوي بالقمة، ويستبدلها بقمة أخرى على مواصفات شعبية جديدة وحديثة، تختلف عما قبلها.
والسؤال الذي يطرح نفسه علينا، هو: لماذا تضطر بعض الشعوب لتغيير أنظمتها، وتستبدلها بأنظمة أخرى؟ يجيبنا المؤرخ والمفكر الاجتماع - سياسي، العربي ابن خلدون، ويؤكد على جوابه المنظر السياسي الإيطالي، نيكولي ميكافيلي؛ بأن النظام عندما يتمكن منه الفساد وينخر فيه، يصل لدرجة اليأس من إمكانية إصلاحه، ويصبح الحل الوحيد لإصلاحه هو هدمه، وبناء آخر مكانه. أي عندما ينخر الفساد في جسد نظام ما، يكون كبناء نخر أساساته وأركانه الصدأ والعطب، هدمه وبناء آخر مكانه، أسلم من ترميم صدئه وعطبه. إذاً فالأنظمة قد تصل لمرحلة انتهاء الصلاحية، مثلها مثل أي كائن حي آخر؛ حيث النظام هو إدارة بشرية، تنبض بالحيوية والديناميكية.
النظام السياسي، هو منظومة إدارية ومؤسساتية، تطمح لإدارة مقدرات البلد، بطريقة اقتصادية رشيدة توفر لمواطنيه ضروراته الحياتية والمعيشية، وتوفر لهم سبل الرفاه والسعادة، وتحفظ لهم كرامتهم وإنسانيتهم وتصونها وترعاها. ويحدد نجاح النظام السياسي، قدر توفيره المتطلبات المذكورة لمواطنيه، كما يحدد فشله قدر إخفاقه في توفيرها لهم. والمواطن في أي نظام سياسي في العالم، لا يطالب نظامه أو يتوقع منه، أكثر مما لديه من إمكانات متوفرة، ولكنه بنفس الوقت، لا يتغاضى عن أي تقصير غير مبرر يطال نصيبه من ناتج دخله القومي. وقد يخفق نظام سياسي في الوصول لأهداف خططه التنموية المرسومة والمخطط لها، وذلك بسبب تهور في الإدارة أو تغييرات دولية أو إقليمية لم تكن في الحسبان، ولذلك يحاسب السياسيون على فشلهم في إدارة مقدرات البلد؛ ولكن لا يتهمون بالفساد، وإنما بالفشل في إدارة النظام. ولكن الطامة الكبرى، تكمن عندما يفشل نظام سياسي، في توفير أدنى المتطلبات الحياتية والمعيشية الآدمية لمواطنيه، ناهيك عن توفير سبل الرفاه والسعادة لهم؛ مع تضخم في حسابات ومدخرات فئة من قياداته ومتنفذيه، تصل لأرقام فلكية تقدر بـ( المليارات ). خاصة في ظل كون الدخل القومي للبلد متواضعا أصلاً، أي لا مجال لتبذيره أو الاختلاس منه.
وعندما يطل رأس غول الفساد، في بلد، ويسمح له بالتسكع فيه بلا حسيب أو رقيب، فهو حينئذ يتمدد طولاً وعرضاً، يلتهم بشراهة لا يبقي فيها ولا يذر، ويأكل الأخضر منها واليابس، بحذر ومن غير حذر، عندها يصبح الفساد ونهب المال العام، شطارة كل متذاكٍ وكل بليد. ويصبح كل فاسد له حاشية، وكل فرد في حاشيته له حاشية، وهكذا تكثر الحواشي، وتتلاشى المتون، وتضمر العقول وتكبر البطون. وتضمحل فرص العيش الشريف والكسب الحلال، وترتفع الأسعار، وتهبط القيم؛ فينسد أفق الأمل، ويغدو المواطن مفلسا، لا شيء يمكن أن يفقده أو يحسب له حساب. ويجد المواطن نفسه مضطراً إما للنكوص لمؤسسات حمايته التقليدية، العائلة والعشيرة والقبيلة، أو الطائفة؛ وإما إلى التقدم لمؤسسات مجتمعه المدني الحديث، الواقعية منها أو الافتراضية.
وبما أن مؤسسات المجتمع المدني العربية الحديثة ما زالت في طور التشكل، ولم تتح لها، أو لم يرد أن تتاح لها الفرصة الكافية للعب دورها الطبيعي كسند ورقيب لأداء مؤسسات الحكم؛ فتقفز للمقدمة مؤسسات المجتمع المدني الافتراضية، والتي تكون جاهزة للتفعيل وتحويلها من افتراضية إلى واقعية ملموسة، لتفعل فعلها المطلوب منها والمنوط بها. ومؤسسات المجتمع المدني الافتراضية، هي مواقع الشبكة العنكبوتية، من الفيس بوك والتويتر واليوتيوب وغيرها من آليات وتقنيات الاتصال الرقمية، العصية عن المراقبة والمتابعة؛ وعليه التحكم بها وتوقع نتائجها. وأخذ يدير هذا العالم الرقمي السحري، جيل رقمي شبابي لا يعترف إلا بعالمه الرقمي الافتراضي، الذي أصر إلى إنزاله لعالمه الواقعي، عندما تصادم معه عالمه الواقعي في طموحه وتطلعاته، وأصبح بالنسبة له لا فرق بينه وبين عالم الديناصورات، قبل آلاف القرون.
العولمة الرقمية تساند وتعاضد الجيل العربي الرقمي الجديد، بكل تطلعاته وتمنياته، من فضائيات ومنظمات مجتمع مدني عولمي. أصبحت الحدود بالنسبة له، جزءا من أطالس التاريخ. وهكذا انخلق جيل رقمي عربي، تفصله عن جيل آبائه، سنوات ضوئية. وأصبح هذا الجيل الرقمي الشاب، يمثل ما نسبته 75% من عدد سكان العالم العربي. مجتمع براغماتي غير مؤدلج، انحاز لواقعه، وقرر أن يعيشه، بكل معطياته وكما هو يريد، لا كما يراد له أن يعيشه.
وعلى هذا الأساس، فيجب أن تحسب الأنظمة العربية ألف حساب لهذا الجيل الرقمي العربي الشاب الجديد الذي لم نعهده في تاريخنا العربي، لا البعيد ولا القريب، حيث هم يمثلون غالبية الشعوب العربية، وبنفس الوقت، يملكون الشجاعة والقدرة على فرض التغيير، ولكن في حالة عدم تمكن النظام السياسي من حماية نفسه فالنتيجة هي سقوطه، وصعود نظام سياسي آخر بديل عنه، وهذا يمثل صراع البداوة والعمران عند ابن خلدون، هذا في حال كانت قواعد تأسيس الأنظمة السياسية واضحة وشفافة ومنضبطة، وبعبارة سياسية القواعد الديموقراطية المدنية الحديثة، التي تمثل جيلها وعصرها، قلباً وقالباً. حيث الكثير من الأنظمة السياسية العربية، يختلط النظام السياسي فيها بالدولة؛ فيسوق الأول نفسه على أنه ممثل للثاني، وقد يؤدي سقوطه، اسقوط مدوٍ للدولة بحد ذاتها، ومثال على ذلك ما حدث قبل أيام بمصر، حيث لما ارتبط النظام السياسي بالدولة وأصبح هو هي، وهي هو، كادت فعلاً تسقط الدولة بسبب الضعف الذي وصل إليه النظام السياسي.
كل نظام سياسي لا يمتلك وسائل حمايته الذاتية (غير الأمنية والقمعية)، من مشاريع مجتمعية مدنية تحديثية، تدار وتسيّر، بشفافية وحسن في توزيع ثرواته على مجموع أفراده، وعدم التصادم مع مكوناته، فإن كل وسائل التأييد الخارجية لا تنفعه، لأنها ببساطة ليست جزءا منه، ولا من طبيعته، فإن لم يكن يمتلك مثل هذه المقومات فإنه حتماً، سيسقط وسيخلفه نظام آخر لديه مقومات البقاء.