منذ 1948 وقبل 1948 تعامل الغرب مع إسرائيل على أنها ربيبته، رأس جسر له ولحضارته إلى العالم العربي ـ الإسلامي. النغمة السائدة لدى الساسة الغربيين عامّة، وأكثر منهم لدى وسائل الإعلام في هذا الغرب هي كيل المديح لإسرائيل على كل الموجات والشاشات.

 الحقيقة لا تساوي الكثير في كل ما يُردد ويقال عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل.

أمّا انتقادها فهو من الكبائر. إنها الاستثناء الوحيد من إمكانية النقد وكل من يخالف يغدو عدو الديموقراطية و"العالم الحر" ولا يعرف من أين تأتيه السهام، هذا إذا لم يعرّض نفسه للمساءلة القانونية تحت بند "معاداة السامية".

تستطيع أن تنتقد في الغرب من تشاء وما تشاء، الحكم والحاكم والكنيسة ورأس الكنيسة، ولكن من المحظور أن تنال من "صاحبة العفّة والصون" إسرائيل.

وهناك في الغرب ما يسمّى بـ"واجب الذاكرة"، وما يعني عمليا التذكير المستمر بالاضطهاد والقمع اللذين مارسهما أدولف هتلر ضد اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية.

بالطبع مـا فعله هتلر باليهود هو جريمة ضد الإنسان والإنسانية ولا يمكن المسـاومة عـلى إدانته تمـامـا مثـل الاضطهـاد والقمع اللـذين تمارسهما إسـرائيل ضـد الشعب الفلسطيني.

لكن لا يختلف اثنان حول واقع أن مؤيدي إسرائيل "حتى النخاع" هم أصحاب اليد العليا في السواد الأعظم من وسائل الإعلام الغربية. هذا يعرفه القاصي والداني.

وهم مارسوا ويمارسون من موقع القوّة سلطة فيما يخص توجيه الرأي العام في بلدانهم. وهناك في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها عدد هام من مراكز البحث "علب الأفكار" المختصّة التي تنتج يوميا آلاف مقالات الرأي والافتتاحيات لنشرها في مختلف الصحف والمجلات الأمريكية على المستوى العام أو على المستويات المحلّية.

لكن قد يأتي اليوم الذي تغيّر فيه الريح اتجاهها.

"إن سنونوة واحدة لا تصنع الربيع"، كما يقول مثل فرنسي شائع.

 لكنها تبشّر به على الأقل. وليست قليلة هي الأصوات في الغرب اليوم التي امتلكت شجاعة الكلمة ووجّهت أصابع الاتهام لإسرائيل. في الأمس المفكّر الأمريكي المعروف نعوم تشومسكي والفيلسوف الفرنسي إدغار موران، وهما يهوديان وكثر غيرهم من أصحاب الفكر الذين أرادوا أن يرتقوا إلى مستوى ما تتطلبه النزاهة التي هي إحدى سمات المثقّف الحقيقي، وفيما هو فوق المحافظة على مواقعهم الاجتماعية ونيل رضا وسائل الإعلام المؤيدة لإسرائيل.

واليوم يبرز صوت جديد هو للمفكر الفرنسي ذي الشهرة العالمية ريجيس دوبريه الذي صدر له قبل أيام  ـ 19 من الشهر الجاري ـ كتاب تحت عنوان "رسالة إلى صديق إسرائيلي".

العنوان يذكرنا برواية الكاتب الفرنسي ألبير كامو "رسالة إلى صديق ألماني" التي نشرها عام 1948 تحت اسم مستعار "لويس نوفيل" وتدور أحداثها أثناء الحرب العالمية الثانية لشجب ممارسات النازية. و"الصديق الإسرائيلي" الذي يوجّه له دوبريه الرسالة هو إيلي بارنافي سفير إسرائيلي سابق في باريس والذي يحتوي الكتاب على ردّه في الصفحات الأخيرة منه.

كتاب دوبريه ليس عملا روائيا ولكنه عمل توثيقي. وهو ثمرة مهمة رسمية في فلسطين ومنطقة الشرق الأوسط كلفته بها الرئاسة الفرنسية عام 2007 لمعاينة مدى التعايش بين الأديان. لقد رأى بعينيه ما تفعله إسرائيل وكتب عن حقيقة إسرائيل وعنصريتها واستعمارها. وفي عام 2008 وجّه مذكرة عن مشاهداته للواقع إلى السلطات المختصّة ببلاده، فأجابته عليها بالقول: "التشخيص الذي تقوم فيه عن النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني صـحيح تمـامـا، لكـن لا يمكـن الإعلان عمّا جاء فيه بفرنسا".

ويضيف دوبريه: "عندما واجهوني بهذه الإجابة قطعت العهد على نفسي أن أنجز كتابا آخـر، ملتزما، كـي أتصـالح مـع نفسي ومـع ما رأيته هناك".

فكان هـذا الكتاب الـذي يقول مؤلفه بصـدد إنجـازه "لقد تخلّصت في الواقع من بلاطة كانت تجسـم على لسـاني.

ولم أكن أريد أن أموت قبل أن أفعل ذلك". لقد لاحظ وشاهد وعاين ثمّ أقدم، كما يفعل العقلاء والشجعان.

ريجيس دوبريه وأمثاله يدركون أنهم سوف يثيرون الزوابع ضدهم. وحقّهم علينا أن ندعمهم ونكرّمهم ونساهم في نشر أفكارهم التي تتجاوز الشعارات.

لكن هل "يسمح وقتنا" بذلك؟!