انتحى به جانبا وهمس في أذنه همسة محب: يا أخي العزيز أنت رجل مقتدر فأرجوك أولا أن- تستحم – يوميا حيث رائحتك تزكم الأنوف ثم إن ثيابك رثة وممزقة فاستبدلها، بقاؤك على هذا الوضع يضايقنا جميعا في المكتب فأنت مديرنا ولا بد أن تكون قدوتنا في النظافة وموضع احترام المراجعين.

نظر المدير باستعلاء إلى هذا الموظف المتجرئ عليه، وهز رأسه وهو يقول: خير. ما إن غادر الموظف حتى بدأ المدير ينقب في ملفه هل هو يتأخر أو يغيب أو يقصر في عمله، لم يجد شيئا، تجاهل المدير المتن وانتقل إلى الهامش، المتن هنا هو واقعه المزري مع النظافة أما الهامش فهو كيف يتجرأ أحد من موظفيه عليه وينبهه إلى واقعه الفادح، تصاعدت الحال الهامشية في دماغه، استدعى موظفا آخر وسأله عن رأيه في زميله المتجرئ، فارتبك وقال المهم رأي سعادتكم، فقال المدير: هذا قليل أدب، ولا بد من تأديبه. وانتشرت رؤية المدير لموظفه المتجرئ، أصبح قليل أدب في نظر الجميع، ووصلت الصفة إلى بعض المراجعين ومنهم إلى أوساط اجتماعية أخرى، اضطر الموظف المتجرئ أن يوضح الحقيقة، نظافة المدير، الموظفون كلهم يعرفونها لكنهم لا يجرؤون، والمراجعون يشمون الرائحة لكنهم لا يسألون، بدأ الهمس وارتفعت أصوات منافقة تشيد بنظافة المدير وجمال ثيابه وحسن هندامه ورائحته الزكية، وتكررت وتصاعدت وانتشرت، لدرجة أن بعضهم كان يقول للمدير: إذا لم أشم رائحتك أشعر بالنكد، طوقت الأصوات المشيدة نصيحة المتجرئ المخلصة، وخنقتها، وصدقها المدير، فخنق ذلك الموظف حتى أبعده، إنكتم الهامش ولم يمح من الواقع، وبقي المتن على حاله من العفن والقذارة، لم يمض وقت حتى تجرأ موظف آخر، ولكن هذه المرة لم يهمس في أذن المدير، وإنما أعلنها بصوت مرتفع أمام البقية، وهنا استعان المدير بالسكرتارية، فبدؤوا يفصلون الأوهام، قال أحدهم هذا مغرض يريد تشويه سمعتك أمام الناس، وقال آخر هذا عنده علاقات يريد أن يوظفها ليكون هو المدير، وقال ثالث بل هو مريض نفسيا، ولم يشر أي منهم إلى ضرورة معالجة المتن المقيم، مع أنهم جميعا يشمون الرائحة ويرون القذارة، تم فصل الموظف أو طرده أو إدخاله إلى مصح عقلي، كل هذا لم يعد مهما، فقد كرت السبحة لكن الموقف لم يتغير ظل المتن كما هو وانشغل الكل في مطاردة الهامش، والنتائج لا بد أن تأتي منسجمة مع طبيعة السياق.

هناك في كل زمان ومكان أفاقون ومغرضون وانتهازيون ومتربصون، ويوجد مخلصون وصادقون ومحبون، وبين هؤلاء وأولئك واقع حي وحقيقة ماثلة، هذا الواقع وتلك الحقيقة هما المتن، وما عداهما هوامش، فإذا كان المتن سليما صحيحا فإن الهوامش تبقى في موقعها الطبيعي من الأثر ما هو مفيد منها يعزز سلامة المتن ويخدمه، وما هو ضار يسهل محوه، أو يبقى أثره ضعيفا متهاويا لأنه لا يستند إلى ما يقنع طالما الواقع يكذبه، بين المتن والهامش تقوم أمثال وحكم مثل: لا يمكن تغطية الشمس بغربال، ومثل: امش عدل يحتار عدوك فيك، والأمر على هذا النحو يبدو واضحا، لكن المشكلة تتعقد عندما يتم القفز على المتن كما فعل المدير المستعلي أعلاه، أو عندما تكون معرفة المتن عسيرة بسبب الجهل أو ضعف شبكة الاتصال.