بالرغم من أن الفساد الإداري جريمة تنسب لأصحاب الياقات البيضاء من ذوي المناصب الذين تتركز الصلاحيات في أيديهم وهم الأقدر على تخطيها إلا أنه في الدول التي يصل الفساد حتى نخاع العظم لا تصبح هذه جريمة أصحاب الياقات البيضاء فقط بل والياقات الزرقاء ممن يقعون في أسفل السلم الوظيفي. لكن هذا لا ينفي أن أصحاب المناصب القيادية هم من يؤسس لهذا السلوك.

ويمكن أن نصف الجريمة نفسها بالبيضاء ليس فقط لأن كشفها صعب حتى وإن ظهرت ووصلت آثارها لمعظم أفراد المجتمع. بل لأن أصحابها بسبب مناصبهم عادة يعيشون وكأن سجلهم الاجتماعي أبيض. فمنصب مدير جامعة، ووكيل بلدية، وكبير استشاريي مؤسسة حكومية وغيرها من المسميات الضخمة تجعل أصحابها يكرمون وقلما تنسب لهم مباشرة مظاهر الفساد. فأن يدخل بيت العائلة رجل من أصحاب المناصب التي تحوم حولها شبهة الغرق في الفساد ليخطب ابنتهم فسيتم استقباله بحفاوة وسينظر لصاحب هذا البيت والمصاهرة بأنه شخص محظوظ بهذا النسب الرفيع. بينما لو اخترقنا الصورة الظاهرة فقد يكون السبب في موت الابن في حادث سيارة لأنه لم يعبأ بتأمين سلامة الطرق وإذا كان في الصحة فقد يكون عب من موارد القطاع وتحت إدارته من تسبب في عاهة لأحد أطفال العائلة. ولو أنه في مجال التعليم أو التخطيط فقد يكون دوره رئيسيا في عدم إكمال الابنة تعليمها أو جلوس الشاب دون وظيفة. ومثل هذه الجرائم يجب أن يكون سجل صاحبها أسود وتصبح مكانته الاجتماعية كخريج السجون أو مروج المخدرات إلا أن القليل من يربط بين المسبب والنتيجة فيخرج الفاسد بوجه أبيض وكأنه بطل.

الفساد الإداري يتسرب بصورة خفية لا تُدرك، كوصف الحديث للشرك فيتسرب كدبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء في الليل الأسود. فيبدأ بسلوكيات صغيرة في نظر مرتكبها، تمر بهدوء أمام من يشهدها حتى تصل لدرجة يصعب علاجها دون هدم البناء كله. لذا برأيي لا بد من أن نربي جيلاً يدرك معنى الفساد الإداري، جيل لديه حساسية مفرطة نحوه. جيل يعي أن التزام الصمت نحو الفساد يعني تدمير مستقبل نفسه وولده ووطنه. جيل يشم نتن الواسطة والاختلاس، ويعرف أن الاستفادة من المناصب لتحقيق مصالح شخصية هو قمة الفساد. فرد يعرف تماما أن الوطن كالمركب إذا ثقب بمثقاب الفساد وحتى وإن كان الثقب بعيدا عنه إلا أنه سيغرق مع الجميع بنفس الدرجة.