ما كتبته في المقالين السابقين عن الأوضاع العربية الراهنة وعن تسارع الأحداث بشكل دراماتيكي خطير أدى إلى الكثير من التحولات الكبرى والتغييرات المفصلية في واقع بعض بلدان العالم العربي التي تشهد منذ سنوات طويلة احتقانات وأزمات وتصدعات نتج عنها حتى الآن غياب نظامين عربيين كبيرين عن المشهد السياسي العربي بعد عقود من الاستئثار بالسلطة والثروة والقرار والمصير، ويبدو أن رياح التغيير التي بدأت في تونس ثم مصر لن تتوقف عند هذا الحد، ولكنها على الأغلب ستواصل مسيرتها "التسونامية" لاقتلاع الكثير من النظم والحكومات.
ما كتبته عن ذلك الملف العربي الساخن الذي فتح كل الجروح العربية النازفة منذ عقود طويلة من الزمن، عقود الثورات الورقية والخطب الحماسية والحروب العبثية والنظم الدكتاتورية والأحزاب والنخب الفاسدة، ولم تجلب للمواطن العربي البسيط إلا المزيد من الفقر والقهر والمعاناة واليأس والإحباط والغربة.
ماذا بعد؟ سؤال كبير وخطير جداً بحجم كل التحديات والتطلعات العربية من المحيط إلى الخليج، هذه المنطقة المضطربة التي لم تعرف الاستقرار والأمن والهدوء والتنمية، سواء منذ التقسيمات الاستعمارية الأولى، أو من خلال التداخلات العالمية الحديثة التي جعلت من هذه المنطقة الحساسة بيئة خصبة للنزاعات والصدامات البينية والتجاذبات الخارجية مما أدى إلى هذا التراجع الخطير للدور العربي الذي يملك كل المقومات والإمكانات الأساسية للقوة والتقدم والقيادة.
ماذا بعد؟، هل ما حدث بالأمس في تونس، واليوم في مصر، ويحدث في ليبيا، وربما غداً في بلدان أخرى، سيُغير شيئاً من فكر العرب وثقافتهم ونظرتهم وسلوكهم، أم أن الأمر لا يستحق ذلك، كما هي عادة العرب دائماً في التعاطي مع التجارب والخبرات والتحولات.
أعتقد أن الوضع مختلف جداً هذه المرة، ولا يجب أن تمر كل هذه التغيرات الجذرية في واقع العالم العربي بشيء من الخجل أو البطء أو عدم الاهتمام. نحن بحاجة إلى عالم عربي جديد، تُمد فيه جسور المحبة والصدق والشفافية والعدل والمساواة والحرية والإصلاح والتغيير والاحترام والأمل والثقة، وكل منظومة الحياة الكريمة التي ينشدها الإنسان العربي. لقد استعادت الشعوب العربية بعضاً من إرادتها ووهجها وعنفوانها، بعد غيبة طويلة عن جادة الشعوب الحرة والمجتمعات الحية.
لقد أصبحت مفردة "تحرير" العنوان الأبرز والأشهر في فكر ومزاج المواطن العربي، والكل يضع هذه المفردة السحرية الملهمة في المكان المناسب لها، كما يعتقد طبعاً، أو بما تسمح به الظروف والقيود.
وبعد كل ما حدث ويحدث في الوطن العربي من تداعيات كبرى وتطورات خطيرة ستُغير بلا شك وجه المنطقة، بعد كل ذلك، أصبت بالدهشة والصدمة في آن معاً، حينما تابعت استطلاعاً في إحدى القنوات العربية الخاصة يدور حول أحلام وتطلعات المواطن العربي بعد أحداث تونس ومصر. كنت أظن ـ وأظنه كذلك بالنسبة لنا جميعاً ـ أن التطورات الدراماتيكية المتلاحقة خلال هذه الفترة المفصلية من عمر العالم العربي سترفع من سقف الأحلام والتطلعات والطموحات التي يحملها المواطن العربي ولكنني تفاجأت حينما وجدت أن المطالب لم تتغير، نعم قد تكون النبرة أكثر حدة وتفيض منها الحماسة والثقة، بعد أن كانت خجولة وتتلفت يمنة ويسرة. العمل، التعليم، السكن، الصحة، الحرية، الكرامة، المساواة، العدالة الاجتماعية، تكافؤ الفرص، الاحترام، الحياة الكريمة، وغيرها من منظومة الحقوق الطبيعية التي يستحقها كل فرد في العالم.
مسكين هذا المواطن العربي، مازال حتى الآن، يعتبر حقوقه الطبيعية في حدها الأدنى والتي تكفلها كل الأديان والأعراف والقوانين والمبادئ هي غاية كل أحلامه وطموحاته وتطلعاته. هذا المواطن العربي البسيط، وبعد كل ما حدث، ألا يستحق حياة كريمة؟