جدة: ياسر باعامر
منذ مجيء حكومة حزب "العدالة والتنمية" إلى سدة الحكم في تركيا عام 2002، تغيرت ملامح السياسة التركية الخارجية، بعدما وضع معالمها وزير خارجيتها الحالي أحمد داود أوغلو، "مهندس الدبلوماسية التركية"، كما وصفته مجلة "الإيكونومست" البريطانية. تقوم هذه الإستراتيجية في التعامل مع الملفات الخارجية الحساسة، والتي وصفها أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة الدكتور إبراهيم البيومي بأنها "إستراتيجية اللا مشاكل"، و "التخلص من أعباء الخلافات الإقليمية الطويلة".
تقارب أنقرة وطهران
التقارب بين أنقرة وطهران، هو إحدى ثمار هذه السياسات التركية الجديدة، وهو الأمر الذي آثار القلقين الأوروبي والأمريكي، وهو ما أشارت إليه صحيفة "الديلي تلجراف" البريطانية في الحادي عشر من يونيو الجاري، على لسان الكاتب السياسي الشهير "كون كوجلين"، والذي قال في مقال له "إن تحالف تركيا مع إيران يشكل تهديدا للسلام العالمي"، كما اعتبر كوجلين أن "قرار تركيا الاعتراض على قرار مجلس الأمن الأخير، بشأن إيران، ينبغي أن يكون ذا أهمية، لكل أولئك الذين يريدون قرارا هادئا للأزمة الدولية، المتعلقة ببرنامج إيران النووي". ووفقاً لكوجلين فإن "الأتراك على ما يبدو، منزعجون من أن الغرب لم يستجب بطريقة إيجابية للاتفاق النووي الذي تفاوضوا بشأنه مع إيران بمساعدة البرازيل، والذي بموجبه ستشحن طهران بعض مخزونها من اليورانيوم المخصب إلى أنقرة، في مقابل قضبان وقود لمفاعل الأبحاث في طهران". وأشار كذلك إلى أن "الاتفاق الإيراني التركي، فيه دلالة على توجه أكثر قلقا في العلاقات بين البلدين، وأن المسؤولين الإيرانيين كانوا على اتصال مباشر مع نشطاء المساعدة، المسؤولين عن تنظيم أسطول الحرية، الذي حاول كسر الحصار الإسرائيلي على غزة".
وقد أصبحت تركيا بطبيعة الحال، صوتا مؤيدا بشكل متزايد لإيران، لحقها في تطوير تقنية نووية في الأسابيع الأخيرة، كما يرى الكاتب أن تركيا ستميل - بعد أن أُحبطت محاولاتها للتفاوض بشأن إنهاء أزمة إيران النووية - إلى مساعدة إيران لاستباق نظام العقوبات الجديدة، بتهريب سلع عبر حدودهما المشتركة. وهذا الأمر سيكون "كارثيا ليس للغرب فقط، ولكن لتركيا أيضا، لأنه إذا فشلت العقوبات فسيزيد الضغط حينئذ، لاتخاذ إجراء أشد لمنع إيران من تحقيق هدفها لتطوير أسلحة نووية". وتساءل كوجلين "هل تريد تركيا حقا أن تكون الدولة المسؤولة عن نشوب حرب بين إيران والغرب؟"، وتمنى "ألا يكون الأمر هكذا، وأن تدرك أنقرة أنها تلعب بالنار، فيما يتعلق بسياستها مع إيران".
مصلحة للغرب
ونسبت الـ"إيكونومست" لوزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو قوله "إن علاقات تركيا الودية مع الجمهورية الإسلامية كانت ذات نفع للغرب، وكانت وساطة الأولى ومساعيها من خلف الكواليس، قد أفلحت في إطلاق سراح موظفي السفارة البريطانية في طهران مؤخرا. وإن العلاقات بين البلدين أفادت في كلا الاتجاهين، حيث نجحت أنقرة في إطلاق سراح خمسة من الدبلوماسيين الإيرانيين في مطلع الشهر الجاري سبق أن اعتقلتهم القوات الأمريكية في العراق عام 2007".
الفراغ الاستراتيجي الأمريكي
الخبير والمحلل السياسي اللبناني، الدكتور حبيب فياض، ربط في معرض تعليقه لـ"الوطن"، تحليل العلاقة بين أنقرة وطهران بـ"الفراغ الاستراتيجي الذي سيحصل في منطقة الشرق الأوسط، بعد انحسار الدور الأمريكي في بعض استحقاقاته، في عدد من الملفات الإقليمية والدولية، كالملف العراقي، كما السوري، والفلسطيني، والنووي الإيراني، والأزمة الصومالية والأفغانية". ويشير فياض إلى أن تلك الملفات تركت ما أسماه "الفراغ الاستراتيجي في المنطقة الإقليمية الأهم، ضمن المعادلات الدولية"، موضحاً أن"الأتراك قرروا الدخول في التحالف الاستراتيجي مع إيران، بعدما أوصدت الأبواب أمامهم، من نيل عضوية الاتحاد الأوروبي".
تركيا والاتحاد الأوروبي
ويذهب المتخصص في الشؤون الإيرانية، أمير الموسوي، إلى ما ذهب إليه فياض من أن "الموقفين الفرنسي والألماني الأخيرين، بشأن استبعاد انضمام تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي، والاكتفاء بها في محور (الشريك الاستراتيجي) مثل انتكاسة واضحة للحكومات التركية السابقة والحالية، وهو ما جعلها تتجه في دبلوماسيتها نحو العمق العربي والإسلامي، كمحور استراتيجي لها". موسوي الذي كان يتحدث لـ"الوطن"، يعتقد أن تركيا "رأت في إيران لاعباً وطرفاً إقليمياً مهماً لها"، وهو ما جعلها توطد علاقاتها مع الجمهورية الإسلامية.
موقف وسطي
إلا أن الدكتور حبيب فياض، يعود ليؤكد على نقطة يراها غاية في الأهمية، وهي أن "أنقرة لا تريد في تحالفها الدبلوماسي الاستراتيجي مع نظام طهران، الانضمام لمحور الممانعة، الذي يضم إيران، وسوريا، وحزب الله، وحماس، بل تريد أن تكون في منطقة الوسط، وتكون لها مرجعية خاصة بها، تبعدها عن التبعية للاتحاد الأوروبي، وتخرجها عن نطاق العباءة الأمريكية". وفي سياق متصل، يؤكد فياض أن "التحالف الاستراتيجي بين أنقرة وطهران، أحرج موقف دول الاعتدال العربي، ، وهو ما يمثل الحساسية العربية الرسمية، وموقفها من هذا التحالف"، حسب وجهة نظره.
قلق عربي
لم يكن القلق من هذا التقارب التركي الإيراني، محصورا في الموقفين الأمريكي والأوروبي، بل وصل القلق إلى "الأطراف العربية"، والذي لم يجد له مدير "المعهد العربي التركي" بأنقرة، الدكتور محمد العادل، "أي مبرر"، وفقاً لحديثه مع "الوطن"، معتقدا أنه "من مصلحة الأطراف العربية أن يدوم هذا التحالف الاستراتيجي، فأنقرة في ظل حكومة العدالة والتنمية، لن تهدد المصالح السياسية العربية والإسلامية، المنزعجة من هذا التحالف، بل هي مكمل لها"، معتبرا أن هذا "التحالف صمام أمان لأمن الخليج العربي، ومن المصلحة أن تبقى المنطقة هادئة، من أي توترات قد تعصف بها".
ويستشهد الدكتور العادل بـ"الدبلوماسية التركية، التي استطاعت بفضل علاقاتها مع إيران، أن تدفع نحو عدم تقسيم العراق، وتحوله إلى تقسيمات طائفية خاصة حسب رأيه.
فيما يتعلق بمشروع الدولة الكردية، المدعوم من قبل الإدارتين الأمريكيتين السابقة واللاحقة"، معتبرا أن "أنقرة استطاعت أن تكون طرفاً رسمياً داخل المنظومة العراقية". وفي سياق متصل رأت مجلة "إيكونومست" البريطانية، أن "موقع تركيا الإستراتيجي، أثبت أهميته في الخارطة العراقية، فهي تريد تحاشي صراع يلوح في الأفق بين العرب والأكراد، خاصة بشأن كركوك المتنازع عليها"، معتقدة أن تركيا "حثت العرب السنة على عدم مقاطعة انتخابات عام 2005، وأن أوغلو ضغط لضمان مشاركة كافة المجموعات العراقية في الانتخابات الماضية 2010".
تحالف أم تنافس؟
عدد من المتابعين للعلاقات بين تركيا وإيران يثيرون سؤالا عن العلاقة بين البلدين، أهي تحالف أم تنافس إقليمي؟ الدكتور محمد العادل، والخبير الإيراني أمير الموسوي، يتفقان على أن ما يحدث هو "تحالف وتقارب استراتيجي، ولا يجب النظر إليه خارج ذلك السياق، ووضعه في خانة التنافس"، إلا أن الكاتب السياسي مصطفى اللباد يرى "خلاف ذلك"، ويضعه في خانة "التنافس الإقليمي بين أنقرة وطهران"، ويضيف أن "الصراع على النفوذ بالشرق الأوسط، والرغبة في التمدد الإقليمي، يبدو قدراً مستمراً للعلاقات الإيرانية ـ التركية"، معتقدا أنه قد "استعجل بعض المحللين، تفسير الخطوات التركية، واعتبروها علامة على تحالف جديد بين أنقرة وطهران، في مواجهة إسرائيل والغرب، وهو تحليل مبسط، يعكس تفكيرا بالأمنيات، ولا يلحظ المعاني العميقة للتنافس التاريخي، القائم بين تركيا وإيران، على لعب دور القوة الإقليمية الأعظم في المنطقة، ولا حتى التصادم الواضح في المنظومة القيمية، للنظامين السياسيين التركي والإيراني". ويخلص اللباد إلى نتيجة وهي "وجود بعد صراعي، وآخر تعاوني، في علاقات البلدين الجارين، مع غلبة واضحة للبعد الصراعي، في هذه العلاقات".
أدوار متعاقبة
ويشير المتخصص في الشؤون الإيرانية أمير الموسوي إلى أن "القيادة السياسية التركية رأت أن اللاعب الإيراني، يمسك بزمام عدد من الأوراق المهمة"، والتي يمكن استثمارها في تفعيل فاعليتها الخارجية، ومن ضمنها "الخط السوري، وخط المقاومة اللبنانية، وخط برنامجها النووي، وخط القضية الفلسطينية"، مضيفا أن تركيا "استطاعت أن تلعب دوراً مهما في خط عملية السلام، بين دمشق وتل أبيب، بعلم وموافقة طهران، لاسترداد الجولان السوري". ويرى الموسوي أن "التحالف بين أنقرة وطهران، وضع معادلة جديدة مغايرة للرؤية الأمريكية، التي عادة ما تحل القضايا دون إعطاء دول المنطقة أية امتيازات، وهذا ما ترفضه الدولتان الإقليميتان الكبيرتان".
وفيما يتعلق بالاستثمار الإيراني للأتراك، يقول الموسوي " استفاد نظام طهران السياسي من عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وعلاقتها المتميزة مع الغرب، وجعلها المتحدثة باسمه مع القنوات الغربية، والشارحة لوجهة نظره، باعتبار تركيا مصدر مطمئن لإيران". معتبرا أن "صيغ التفاهم الاستراتيجي قائمة على حلحلة قضايا المنطقة، والوصول إلى محور الشريك الاستراتيجي، في أي قرار إقليمي دولي".
النفط والغاز
تتقاطع المصالح الإيرانية -التركية في مسائل متنوعة، منها تصدير الغاز الإيراني إلى أوروبا، عبر الأراضي التركية، وهى قضية ذات معان اقتصادية وإستراتيجية عميقة، وتتجاوز مجرد تصدير سلعة من بلد إلى آخر، لأن "خط نابوكو"، الذي ينقل النفط والغاز عبر الأراضي التركية إلى أوروبا، سيعزز وضعية أنقرة أكثر فأكثر، على خارطة السياسة الدولية. وفي هذا الشأن يوضح مدير "المعهد العربي التركي" الدكتور محمد العادل أنه "تم مؤخراً تأسيس شراكة تركية إيرانية، بقيمة 3 مليارات دولار، للتنقيب عن النفط والغاز، داخل العمق الإيراني، يسمح لها بالانتقال من مجرد مستورد للغاز من طهران، إلى مصدر، وهو ما يحاول الأتراك، استثماره في علاقاتهم الإستراتيجية مع أوروبا".
وأضاف العادل أن "حجم التجارة البينية بين البلدين، وصل العام الماضي إلى 7 مليارات دولار، ويتوقع أن يصل خلال العامين القادمين إلى 10 مليارات دولار، كما أن حجم التبادل التجاري الحدودي فقط ـ مع إلغاء البلدين استصدار التأشيرات ـ وصل إلى ملياري دولار سنوياً".