عاش الوطن فرحة شاملة بعودة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، من رحلته العلاجية بعد أن من الله عليه بالشفاء والعودة سالما إلى أهله ومحبيه.. عمت الفرحة كل مدينة وقرية. وخرج المبتجهون في الطرقات للتعبير عن سرورهم ومحبتهم. وكان أصدق مظاهرها وأكثرها دلالة بهجة البسطاء والأبرياء من الأطفال والنساء.

وجاءت الأوامرالملكية لتجعل للفرحة ثمرة تنعكس على حياة قطاعات كثيرة من المجتمع لاتصالها بحياتهم ومعيشتهم وتخفيف ضغوط الحياة. وكانت أهميتها ودلالاتها عنايتها بحياة الإنسان البسيط والشاب العاطل والمرأة الأرملة والعاجز عن اكتساب القوت وطالب العلم الذي يتطلع إلى الحياة الكريمة. فقد غطت مشكلة الإسكان، وهو قطاع بالغ الأهمية في حياة الشباب السعودي في ظل ارتفاع أسعار الأراضي وندرتها في نطاق الخدمات في الكثير من المدن مما جعل امتلاك الشباب للمنازل أمراً بالغ الصعوبة. كما اهتمت بدعم قطاع الضمان الاجتماعي الذي يرعى فئة من المواطنين غير قادرة على الكسب فأصبحت في حاجة ماسة للرعاية. وإذا لم تكفل لها الدولة ما يعينها على العيش الكريم فإنها ستشكل عبئاً اجتماعياً ونفسياً.. ولم تغفل الأوامر قطاع الإعانات (بنك التسليف) وهو قطاع مهم يساعد أصحاب الحاجات على قضاء حوائجهم بصورة كريمة.. ويدخل في هذا الباب بدلات غلاء المعيشة الذي يتصدى لمشكلة آنية.. ولكن آمل أن يكون في وعي الجميع أنه ليس من المعقول أو الطبيعي أن تصبح المعونات جزءا من استراتيجية الدولة لتحسين مستوى حياة الناس، لكن الطبيعي هو مساعدة الناس على إيجاد سبل العمل المنتج للخروج من دائرة "المعونات" لمن هو قادر على الكسب. وهذا لا يتم إلا من خلال العناية بمراكز الإنتاج ومساندتها ومساعدتها بكل الوسائل، فهي المخرج من "فخ" البطالة الذي يتهدد الشباب ويشكل حملا ثقيلا على أي حكومة تعنى باستقرار البلد.

ومن الإنصاف، الذي لا تستقيم الحياة إلا به، أن نقول إن عهد الملك عبدالله اتسم بالكثير من التجديد والتطلع إلى المستقبل وفتح أبواب الأمل أمام الكثيرين وفتح آفاق لم تطرق قبله.. واتخذ من القرارات والخطوات ما كان حلماً بعيد المنال في نظر الكثيرين فإذا به واقع معاش.. فقد عرفت ساحة الوطن مبادراته على أكثر من صعيد، فهو الذي فتح باب الحوار بعد أن كان جدارا مصمتا تراكمت عليه كثافة من التقاليد والمناهج التعليمية والتقاليد الإدارية حتى كادت كلمة حوار أن تختفي من القاموس فإذا الملك عبدالله يحييها من جديد ويبرزها.. وأقدم على إحداث إصلاحات وبرامج في قطاع العدالة كان الكثيرون يظنون أنها غير قابلة للتطبيق فإذا هي حديث الناس. فقد كان الكلام عن القضاء وحاجته للتطوير والإصلاح ضربا من الدخول في "عش الزنابير" لا يقدم عليه إلا "المتهور" فإذا وسائل الإعلام، بدعم من القيادة، تعالج عيوبه وتلاحق مظاهر عجزه. وأحيت توجيهاته جسد التعليم بعد الركود والحيرة والتردد فإذا الإرادة والتصميم تنجزان جامعة فريدة من نوعها وتحميهما من كل المعوقات.

والذين يحتفلون اليوم بعودة الملك عبدالله ويفرحون بسلامة وصوله إلى أرض الوطن، مطالبون بأن يتفاعلوا مع المرحلة ويدركوا حجم وطبيعة المتغيرات من حولهم ويخلصوا في اجتهاداتهم لحماية هذا الوطن والعمل على صيانة مكتسباته. فالمرحلة بالغة الدقة وتقتضي من الوطنيين المخلصين الحريصين على سلامة هذه البلاد أن يصطحبوا الأمانة والشجاعة والصدق في إبداء كل ما يصلح من شأن الوطن وأهله. ومن لم يفعل فإنه يكون قد تخلى عن واجب المحبة التي توجب الإخلاص في المشورة. مطالبون بأن يقدروا ما يجري في وطنهم من إصلاحات. ومطالبون بحمايتها، وهو ما يقتضي سماع صوت الناس من خلال قنوات التعبير الأمينة على رأيهم الصادق غير الملون بالأغراض والأطماع والأحقاد. وتكوين الهيئات والجمعيات الأهلية التي يتصدر فيها المخلصون الصادقون لخدمة وطنهم، وهم متحررون من التشكيك والتخوين والانتقاص.. وتطوير أجهزة الرقابة وإعطائها الاستقلال والقوة لمواجهة كل مظاهر الفساد مهما كانت وأيا كانت.. والاستمرار في دعم القضاء وتطوير أجهزته ومنح الثقة لكل الأجهزة العدلية ودعمها بكل ما يساعدها على حفظ الحقوق وإنصاف المظلومين، وضمان حق التقاضي العادل..

الملك عبدالله بن عبدالعزيز رفع شعار الإصلاح، وقاد قافلته بجرأة ووضوح وتصميم. وأصدر الأوامر والتوجيهات للقضاء على الفساد وإصلاح الجهاز الحكومي، لكن الكثير من أجهزة الحكومة لم تواكب هذا التوجه واستطاعت البيروقراطية وأصحاب المنافع أن يعطلوا بعض مظاهر الإصلاح وأن يبطؤوا سرعته في مواقع أخرى.. وللخروج من دائرة الترهل التي يعيشها الكثير من الأجهزة الحكومية فإن الأمر يحتاج إلى تجديد دماء المسؤولين عنها وتطوير قدراتهم ومعارفهم، واعتبار الأهلية العلمية والمهنية معيار التقدم والصدارة وليس اعتبارات أخرى تدفع بالأنقياء والقادرين إلى الصفوف الخلفية وتتناقص مشاركتهم.. كما تحتاج إلى تفعيل القوانين والأنظمة التي تحارب الفساد وتشجع على التجديد وتشيع ثقافة الإتقان والابتكار والمبادرة. وهذا لا يتم إلا إذا كانت معايير الأهلية هي الفيصل في الوظائف على كل المستويات.

وإذا أراد الناس أن يحافظوا على مسيرة الإصلاح ويعظموا منافعها ويزيدوا من وتيرتها فهم مطالبون جميعاً بحمايتها بالوضوح والصدق وعدم السكوت عن المفسدين..