تخيلوا مثلا لو أن ما يحدث الآن من عنف ومجازر في ليبيا استطاع أن يحقق نتيجة ما، لا قدر الله، فالذي ستؤول إليه الأمور أولا أنها ستجعل من القمع والقتل الخيار الأول لكل الأنظمة التي تواجه احتجاجات ومطالب في مختلف شوارعها ومدنها، خاصة مع ما يعيشه الليبيون الآن من خذلان دولي وعربي يتمثل في التعليقات الخجولة التي تصدر بين الفترة والأخرى، والتي تتعامل بنوع من النعومة الفائقة مع الدماء التي تنزف في كل أنحاء ليبيا، وقبل يومين فقط تحدث الرئيس الأميركي باراك أوباما بأن على القذافي أن يرحل فورا، بعد قرابة عشرة أيام من الاحتجاجات والمواجهات الدامية. القمع في ليبيا لم يكن مجرد أسلحة وإطلاق للرصاص الحي، بل هو عنف مؤسس تشهد عليه تلك اللغة التي تحدث بها العقيد القذافي في كل خطاباته، تلك اللغة الساخنة والمنفعلة تشير إلى أن خيار القمع لم يكن ضمن خيارات عدة، بل كان الخيار الوحيد، وهو مرتبط بحالة من الصدمة التي تخلفها أكثر من أربعين سنة من الحكم يجد أصحابها أنه حان الوقت للتنازل.

يبدو أن الشارع الليبي لم يكن متفاجئا مما حدث، لكن مفاجأته الكبرى كانت من صمت المنظمات العالمية والعربية والإسلامية عما يحدث، إضافة إلى أن الموقف الأميركي وفي أيامه الأولى كان صادما ومربكا، وحتى التعليق الأبرز الذي صدر عن الاتحاد الأوروبي في بداية الأزمة، وأنهم (يتابعون الوضع بقلق ويخشون من قيام دولة إسلامية في شرق ليبيا) مستفز للغاية، فحتى لو قامت أعتى دولة إسلامية فإنها لا يمكن مقارنتها بالقتل والقمع الذي تشهده مدن الشرق، والذي جعلها أول المدن تحررا وخروجا من سيطرة النظام.

وكذلك بالنسبة للبيت الأبيض، إذ يبدو أن معادلات المصالح الاقتصادية تنافس في أهميتها الإنسان وكرامته وحقه في الحياة، وهو يضاف إلى حالات أخرى من التراجع الأخلاقي الذي تحظى به السياسة الأميركية الآن في المنطقة، خاصة مع فشل نموذج التغيير الذي قادته الولايات المتحدة في المنطقة كما في تجربة العراق، مقابل النجاح الذي حققه التغيير حينما تم بعيدا عن التدخل الأميركي، مما يعني أن القمع السياسي الذي يظهر في المواقف السياسية الأميركية تجاه قضايانا في المنطقة عليه أيضا أن يعيد ترتيب أوراقه من جديد، فالخريطة في تغير مستمر، والأحداث التي تعيشها المنطقة لا تعني تغييرا داخليا لكنه يمتد ليشمل رؤية السياسة الأميركية للمنطقة، وهو ما لا يبدو أنه تم استيعابه، والدليل على ذلك استخدام الأميركيين لحق النقض (الفيتو) منذ أكثر من أسبوع ضد مشروع يدين عمليات التوسع في الاستيطان الإسرائيلي، حين أصرت السلطة الفلسطينية على طرح هذا الملف ليحظى بتأييد عالمي واسع واجهته أميركا بالفيتو، وهو الموقف الذي تسبب في كثير من خيبة الأمل الشعبية تجاه السياسة الأميركية، أردفته بخيبة أمل أخرى تتمثل في بطئها الشديد في اتخاذ أي موقف تجاه أنهار الدم التي تراق في ليبيا على امتداد أسبوعين.

هذا الموقف الأميركي وتلك المواقف الأوروبية يمكن التعامل معها على أنها نوع من القمع السياسي العالمي الذي تعرضت له المنطقة لا على مستوى الزعامات وإنما على مستوى الشعوب، حين تمت الصفقة الباهتة بين الغرب والأنظمة القمعية العربية على أنها تعد الحامي الفعلي لمصالح الغرب في المنطقة بما تمثله من نخبوية تتفوق بها على الشعوب وتستطيع إدارتها وتوجيهها، ومن هذا المنطق يمكن قراءة الجوانب النظرية لحرب احتلال العراق التي وقفت خلفها ذهنية أيديولوجية غربية تعاملت مع المنطقة على أنها حزمة من الزعامات ونسيت أن ثمة شعوبا يمكن أن تسقط رؤساء حكموا لعشرات السنين.

يبدو من هذه الثورات التي تشهدها المنطقة أن الذهنية السياسية الأمريكية والغربية وقعت في صدمة مرحلة جديدة لم تتوقع كثيرا من مفاجآتها مما جعلها ترتبك في صناعة موقف منها، ولذلك ظهرت أشبه ما تكون بعجوز تقليدية ما زالت تؤمن أن أطفالها ينامون مبكرا في الساعات التي عودتهم عليها، بينما هم يتقافزون من فوق أسوارها.

بعيدا عن التنبؤات، وتأكيدا لما يحدث الآن، فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أيلول اتجه العقيد القذافي لصياغة نظامه بما يمثل صورة مريحة للسياسات العالمية، ولكنه كغيره من دول العالم لم يتجه لتغيير ذاته بما يتلاءم مع روح الشباب في شعبه وحركة نموه المستمرة التي ستمثل كل الشعب، وقدموا سيناريوهات غير واقعية لحقيقة علاقتها بالناس، في الوقت الذي كانت فيه الثقافة الغربية الإنسانية تنتج معارف ووسائل توحد الشعور الإنساني في كل مكان ولا تنطلي عليها صفقات السياسيين المتردية في أفكارها وطموحاتها قصيرة الأمد.

إن حالة من القمع اجتاحت المنطقة، ولم تفلح الأحداث ذات التشعبات الواسعة كأحداث الحادي عشر من سبتمبر، أن تعيد صياغة الشعوب والناس كما تريد النخب السياسية، خاصة أن الناس ظلوا خارج دائرة التأثير في القرار والرؤية، ولكن بمجرد أن ظهر وعي عالمي لا يعترف بالحدود تحول الطموح العالمي إلى قيمة واحدة، وحدت الطموح العالمي والقيم العالمية التي تستعد الشعوب للمطالبة بها والدفاع عنها.

يبدو أن السياسة باتت نوعا من الأيديولوجية، وبمختلف أشكالها، ولنتذكر جميعا أن الذين صنعوا الثورات التي غيرت وجه العالم في أوروبا في القرن التاسع عشر لم يكونوا النخب ولا الحكومات ولكنهم الشعوب، إنهم أبناء لميادين تحرير عالمية، تسربت منها نسخة إلى تونس و مصر، وبالتالي إلى العالم العربي.