يناضل السياسيون بالملفات والمفاوضات والمباحثات. ويناضل المقاومون بالسلاح ومواجهة الموت. لكن مها السقا لديها نوع مختلف من المسايسة والمقاومة. فهي لم تبحث عن حمامة سلام في برج قنّاصة إسرائيليين، ولم تحمل حجراً لتواجه دبابة مجنزرة. مقاومتها وسياستها تعتمدان على موهبة كامنة في حواسّها وذائقتها، وبواسطة إبرة خياطة صنعت عملاً نضالياً احترمته شعوب العالم.

ومن أجل هذا النضال؛ أمضت سنواتٍ طوالاً في رصد وتوثيق هوية المرأة الفلسطينية على كامل الأرض المحتلّة، مدينة مدينة، قرية قرية. فكانت نتيجة هذا الرصد الشامل مشروعاً خاصاً أطلقت عليه اسم "خارطة أزياء فلسطين الشعبية"، و راحت تُخبر الشعوب، قبل الحكومات، بما لدى الإنسان الفلسطيني من جذور ضاربة في التاريخ.

المشروع الذي قدمته السقا في أكثر من 40 معرضاً دولياً؛ يستعرض 14 وثيقة فلكلورية لأزياء المرأة في فلسطين، من أقصى الشمال في منطقة "المطلة" بين الحدود السورية واللبنانية حتى أقصى الجنوب في "صحراء النقب". وفي كلّ وثيقة إثبات واضح لجذور الهوية في وطن يعاني احتلالاً عسكرياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً، ويواجه خذلاناً دوليّاً تصطنعه ملفات المفاوضات والمباحثات واللغات الصامتة.

نضال الفلكلور

في مفهوم "النضال من خلال التراث" تختصر الباحثة مها السقـّا رسالتها. وحسب قولها؛ فإنها بدأت الرسالة منذ عشرين سنة عبر مركز التراث الفلسطيني الذي أسسته في بيت لحم. وبما أن عملها الدؤوب "نضال"؛ فإنها لا تهدر وقتاً في الاستفادة من كلّ فرصة لتُخبر الشعوب عن ارتباط "البشر بالحجر"، على حدّ تعبيرها. وحين استضاف قصر الأمم المتحدة مؤتمر العمل الدولي في دورته الـ 99 قبل أيام في جنيف (سويسرا)؛ فإن السيدة السقـّا تسللت عبر البعثة الفلسطينية المراقبة في الأمم المتحدة لتقيم أحد معارضها ضمن اللقاء التضامنيّ مع شعب فلسطين والأراضي المحتلة الأخرى.

ولمدة يوم كامل؛ وقف كثير من المشاركين في البعثات وزوار الأمم المتحدة على الحقيقة الثقافية المغيّبة عن العالم. شاهدوا الزيّ العربي الذي عرفته المرأة في بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور والجليل وصفد وعكا والناصرة ويافا والرملة وأسدود والمجدل وغزة ونابلس وجنين وطولكرم وقلقيلية ورفيديا و رام الله والبيرة وأريحا وعرب التعامرة والعبيدية والخليل وبيت جبرين وبئر السبع وصحراء النقب. وبالتأكيد شاهدوا المرأة المقدسية في زيّها العربيّ بأناقته وعنفوان الأنثى في تفاصيله.

سلاح الهوية

"الوطن" التقتها في القاعة 19 من القصر الأممي؛ حيث أقيم المعرض. كانت عيون الشرق والغرب والشمال والجنوب في المكان. وقبل أن يبدأ اللقاء التضامنيّ كان ضيوف الأمم المتحدة يتصفحون الصور، ويحملون في أيديهم منسوجات السيدة السقا، وكأنهم يتعرفون إلى لغة نضال من نوع آخر، من نوع تقول فيه الإبرة والخيط كلمة واحدة من دون أن تشهر سلاحاً غير سلاح الهوية الذي لا يُمكن تغييبه إلا حين يتخلـّى عنه أصحابه.

وهذا ما قالته لـ "الوطن"، وهي تتحدّث عن مركز التراث الفلسطينيّ في بيت لحم. فالمركز أراد "إحياء وتوثيق ونشر التراث الفلسطيني من منطلق إدراك أهمية إبراز الوجود الفلسطيني الممتد لآلاف السنين". هذا الإدراك كان وراءه هدف واحد هو "ترسيخ الهوية". والخارطة التي رسمتها السقا لا تعترف بأيّ من قرارات الدول ولا تحيزها ولا ترددها في مسألة النضال الفلسطيني. رسمت السيدة خارطة الإنسان الفلسطيني من واقع الأرض التي يعيش فيها. وتحديداً من "خلال الزيّ النسائي". وهو تخصص قد يبدو ضيقاً في شكل من الأشكال، لكنه "واسع جداً وعميق جداً حين نعرف ونرى ونشهد حقيقة الكدّ الذي تصرّ عليها المرأة في هذا الوطن". ولذلك "لا يوجد زيّ اعتباطي.. كل شكل من الأزياء والملابس يمثل خلاصة خبرات تناقلتها أجيال وتعاقبت على رعايتها عملياً، من خلال نسجها وحياكتها وارتدائها، في حياتها اليومية".

تجسيد الجسد

وتتمثل السيدة السقا بالمرأة في صحراء النقب، تلك الصحراء التي نكاد لا نعرف عن هويتها العربية شيئاً، أو لا نعرف عنها إلا مفاعل ديمونة الذي غرسته إسرائيل في أرض عربية. تقول السيدة السقا إنها أقامت في هذه الصحراء مدة من الزمن لتتعرف إلى المرأة العربية هناك، ضمن مشروع توثيق التراث نفسه. الزيّ البدويّ هناك يعبّر عن أصالة لا نعرفها.. هناك براقع حوفظ على استمرارها في مناطق "بئر السبع وصحراء النقب". زيّ المرأة يعكس ثقافة عربية وإسلامية عميقة. هناك المرأة ترتدي الثياب في الخارج منقبّة، وفي داخل البيت محجبة. والحجاب العربيّ موجود على نطاق واسع في أرض فلسطين بوضوح. وإلى جانب الحجاب هناك الاهتمام بسعة الثوب. إنها سعة تعكس حرص المرأة على عدم تجسيد الجسد الأنثويّ أمام غير المحارم. تقول السيدة السقّا إن "الثقافة الدينية موجودة بوضوح"، فـ "المرأة لا يظهر منها إلا الوجه والكفان"، و"كثرة عدد القطع التي ترتديها لا تعيق حركتها، وفي الوقت نفسه لا تدفن جمالها الأنثوي".

جمال محتشم

وبصيغة أخرى؛ يعكس زيّ المرأة الفلسطينية أيضاً "الجمال المحتشم". وتتساوى في هذه المعادلة "المرأة النابلسية وأختها التي تعيش في طولكرم أو صفد أو الجليل". وعلى نحو ما تتقاطع التفاصيل بين الأزياء، ولكن ليس إلى حدّ التشابه. وبلغتها تؤكد السيدة السقا أن الأزياء "شديدة الاختلاف، ويكاد لا يُشبه زيّ منطقة ما في فلسطين زياً آخر في منطقة أخرى"، وهذا يعني ـ لدى السقا ـ أن "زي المرأة في فلسطين غنيّ إلى أقصى حد، ومتنوّع، ومتعدد في دلالاته البيئية والاجتماعية". وتضرب خارطة الأزياء التي رسمتها على مدى عشرين عاماً مجموعة من الأمثلة. فهناك "غطاء الرأس الذي يُشبه الطربوش في القدس وبيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور"، وهو يختلف عن "غطاء الرأس في صفد وقيسارية وجنين ورفيديا حيث تُستخدم عصابة تُشبه العقال".

تضيف "هناك الألوان الفاتحة المنتشرة في رام الله والبيرة وطولكرم وقلقيلية والرملة وسلفيت"، مقابل "الألوان الداكنة في أريحا والمطلة ورفح وعرب العزازمة". و "هناك البساطة في زي المرأة في خان يونس حيث يـُكتفى بقطعة أو قطعتين، مقابل "التركيب في رام الله والبيرة وراس الناقورة وعسقلان"، وهذه المجموعة الأخيرة "تتعدد فيها قطع الزيّ الواحد لتصل إلى ستّ أو سبع قطع، وربما أكثر".

ثراء بصري

البساطة والتركيب يتجسدان في الألوان أيضاً كما هو الحال في عدد القطع. وما يجمع بين كلّ الأزياء التي وثقتها السقا؛ فإن كلّ الأزياء تهتمّ بتعدد الألوان، إلى حدّ أن بعض الأزياء يضم أكثر من عشرة ألوان. وهذا ـ في رأي السقا ـ يعبّر عن الثراء البصري لدى المرأة الفلسطينية، كما يُعبر، من جهة أخرى، عن "انتعاش عدد من الحرف المتصلة بالحياكة والنسيج"، وهذا بدوره "يؤكد العمق التاريخيّ الذي تتمتع به صناعة النسيج في فلسطين"، إذ "لا يمكن لشعب أن يصل إلى هذا المستوى من الخبرة البصرية إلا عبر تراكمات متعاقبة تناقلتها الأجيال".

إعادة إحياء

كان جهداً جهيداً ذلك الذي بذلته السقا في إنجاز المشروع الوطني؛ "مرّ المشروع بمراحل متعددة، لكنّ المرحلة الميدانية كانت أهمها". تضيف "كلّ زيّ من الأزياء خضع لدراسة معمّقة من خلال الواقع الميدانيّ، حيث تمّت زيارة المدن والقرى الفلسطينية للاطلاع على التفاصيل الدقيقة التي تتصف بها ملابس المرأة. كان عملاً مضنياً لكنه ممتع ومشوّق ومليء بالتفاصيل"، خاصة أن "كل منطقة لها سماتها وصفاتها الخاصة". ولم يخلُ العمل الميداني من عقبات، فهناك بعض الأزياء التي صارت في حكم التراث المنسيّ، ولذلك "تطلّب الأمر أن نلتقي بسيدات كبيرات في السنّ، والبحث في أرشيف فلسطين البصريّ، والبحث المضني في تشابه الأزياء، خاصة أن الفروق الصغيرة بين أزياء المناطق المتقاربة".

وبعد المرحلة الميدانية تطلّب المشروع وضع تصنيف مناسب للمجموعات، وقد استقرّ التصنيف عند 14 مجموعة مقسمة على المناطق الفلسطينية، وكلّ مجموعة تضمّ مجموعة فرعية أيضاً، والهدف من هذا التصنيف والتفريع هو رصد أكبر عدد ممكن من الأزياء الفلكلورية، ووضع تصاميم لها ليكون كلّ تصميم وثيقة في ذاتها، تُسهم في الحفاظ على الهوية الوطنية في الأرض المحتلة".

ليست هذه نهاية الحكاية، والسيدة السقا لا تعمل وحدها "هناك قرابة 100 امرأة تعمل في مركز التراث الفلسطيني، ووظيفتهنّ الأساسية في المشروع هي إعادة إحياء التطريز التراثي القديم، ومحاكاته بأصالة الزخرف واللون". وبأيدي الفلسطينيات حيك نضال ثقافي لافت على المستوى الدوليّ. وسبق للمركز، وللسيدة السقا، دخول موسوعة جينيس للأرقام القياسية من خلال تصميم وتنفيذ أكبر ثوب فلسطيني في العالم.